غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ} (55)

50

ثم لما قطع رجاء المنافقين عن منافع الآخرة أراد أن يبّين أن ما يظنونه من منافع الدنيا فهو أيضاً في الحقيقة سبب لتعذيبهم وبلائهم وتشديد المحنة عليهم فقال مخاطباً للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد { فلا تعجبك } الآية . ونظيره { ولا تمدّن عينيك } [ طه : 131 ] وإنما قال { فلا تعجبك } بالفاء لأن ما قبله مستقبل يصلح للشرط أي إن يكن فيهم ما ذكرنا من الإتيان بالصلاة على وجه الكسل وغير ذلك فهذا جزاؤه ، وهذا بخلاف ما سيجيء في الآية الآخرى من هذه السورة . والإعجاب سرور المرء بالشيء مع نوع من الافتخار واعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه ، وأنه من البعيد في حكم الله أن يزيل ذلك الشيء عنه ويحصله لغيره كقوله { ما أظن أن تبيد هذه أبداً } [ الكهف : 35 ] ولا شك أن هذه خصلة مذمومة من جهة استغراق النفس في ذلك الشيء وانقطاعها عن الله ، ومن جهة استبعاد إزالته في قدرة الله ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «ثلاث مهلكات : شح مطاع وهوى متيع وإعجاب المرء بنفسه » والمقصود من الآية زجر الناس عن الانصباب إلى الدنيا والمنع من التهالك في حبها ، فإن المسكن الأصلي هو الآخرة لا الأولى . وقوله { إنما يريد الله ليعذبهم } إعرابه كما مر في قوله { يريد الله ليبين لكم } [ النساء : 26 ] قال مجاهد والسدي وقتادة : في الآية تقديم وتأخير والتقدير : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة كأنهم نظروا إلى أن المال والولد لا يكونان عذاباً بل هما من نعم الله تعالى على عباده ، وأورد عليه أنهما لا يكونان عذاباً في الآخرة أيضاً . فإن تكلفوا وقالوا : أراد بذلك أنهما سبب العذاب فقد استغنوا عن التقديم والتأخير لأنهما قد يكونان سبباً للعذاب في الدنيا أيضاً . وبوجه أخر ، المال والولد وكذا الإعجاب بهما يكونان . في الدنيا لا محالة ، فأي فائدة في ذكرها ؟ واعلم أن الأموال والأولاد قد يكونان سبباً للتعذيب في الدنيا والآخرة ، وذلك أن كل ما كان حبه للشيء أشد كان خوفه عن فواته أكثر وحزنه على فواته أعظم . فصاحب المال أبداً إما في خوف فوات المال وإما في حزن فواته وإما في تعب حفظه وتثميره . ثم إن الدنيا حلوه خضرة فإذا كثر ماله انصب بكليته إليه ويفضي إلى طغيانه وقساوة قلبه إلى أن ينسى حب الله وذكر الآخرة . ثم إنه إن بقي عليه ذلك إلى آخر عمره فعند الموت يعظم أسفه على مفارقته وكان كمن ينتقل من بستان ونعيم إلى سجن وجحيم وعند الحشر يكون حلاله حساباً وحرامه عذاباً فثبت أن حصول المال سبب لعذاب الدارين . إلا من يتصرف فيه بالحق ومثله يكون نادراً ، وكذا الكلام في الولد . وهذا المعنى وإن كان عاماً للكل إلا أن المنافقين لهم وجوه اختصاص بالتعذيب . وذلك أن الرجل إذا كان مؤمناً بالله واليوم الآخر علم أنه إنما خلق للآخرة لا للدنيا فيفتر حبه للأمور الدنيوية بخلاف المنافق الذي اعتقد أن لا سعادة إلا هذه الخيرات العاجلة . وأيضاً إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكلفهم إنفاق الأموال وبعث الأولاد إلى الغزو والجهاد ، وكانوا لا يعتقدون في ذلك فائدة أخروية ، وكانوا في أشق تكليف ، وكانوا مبغضين للنبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم كانوا مضطرين إلى بذل المال وبعث الأولاد إلى خدمته ، وكانا خائفين من افتضاحهم وإظهار نفاقهم وتعريض أولادهم وأموالهم للنهب والسبي ، وكثير منهم كان لهم أولاد أتقياء مخلصون كحنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة ، وكعبد الله بن عبد الله بن أبيّ شهد بدراً وكان عند الله بمكان ، وهم خلق كثير كانوا يزيفون طريق آبائهم في النفاق ويقدحون فيهم ، والابن إذا صار هكذا تأذى الأب بسببه ولأجل هذه المعاني ذكر بعض العلماء أن التقدير : يريد الله أن يزيد في أموالهم ليعذبهم . أما قوله { وتزهق أنفسهم } أي تخرج { وهم كافرون } فقد قالت الأشاعرة : فيه دليل على أنه تعالى أراد منهم الكفر . وأورد الجبائي عليه أن المريض إذا قال للطبيب أريد أن تدخل علي في حالة مرضي لم يلزم منه كونه مريداً لمرض نفسه ، والجواب أن أمثال هذه موكولة إلى قرائن الحال ففي قول المريض لا ريب أن المطلوب هو دخول الطبيب ، وكون الدخول واقعاً في تلك الحالة من ضرورات كونه مريضاً وهو طبيبه . وفي الآية ليس المراد زهوق الروح فقط لأن المسلم والمنافق في ذلك سيان ، فالمراد وقوع الزهوق في حالة الكفر فيكون الكفر منهم مراداً بالضرورة . وقال في الكشاف : المراد الاستدراج بالنعم كقوله { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } [ آل عمران : 178 ] . كأنه قيل : ويريد أن يديم عليهم نعمه إلى أن يموتوا وهم كافرون مشغولون بالتمتع عن النظر للعاقبة .

/خ59