الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ} (55)

وقوله سبحانه : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحياة الدنيا } [ التوبة : 55 ] .

حقَّر في الآية شأْنَ المنافقين ، وعلَّل إِعطاء اللَّه لهم الأَمْوَالَ والأولاد ؛ بإِرادته تعذيبهم بها في الحياةِ الدنيا ، وفي الآخرة .

قال ابنُ زَيْد وغيره : تعذيبُهم بها في الدُّنْيَا هو بمصائبها ورزايَاهَا ، هِيَ لهم عذابٌ ؛ إذ لا يُؤْجَرُونَ عليها ، ومِنْ ذلك قَهْرُ الشَّرعِ لهم على أداء الزكاةِ والحقوقِ والواجبات .

قال الفَخْرُ : أمَّا كون كثرة الأموال والأولادِ سَبَباً للعذاب في الدنيَا ، فحاصَلٌ من وجوه : مِنْهَا : أن كلَّما كان حُبُّ الإِنسان للشيء أَشَدَّ وأقوَى ، كان حزنُهُ وتألُّم قلبِهِ علَى فراقه أعظَمَ وأصعَبَ ، ثم عند الموتِ يَعْظُمُ حزنه ، وتشتدُّ حسرته ، لمفارقته المحبوبَ ، فالمشغوفُ بحبِّ المال والولدِ لا يزالُ في تَعَبٍ ، فيحتاج في اكتساب الأموالِ وتحصيلها إِلى تعبٍ شديدٍ ومشقَّة عظيمةٍ ، ثم عند حصولِهَا يحتاجُ إِلى متاعِبَ أَشدَّ وأصعَبَ في حفظها وصونِها ؛ لأن حفظ المَالِ بَعْد حصوله أصْعَبُ من اكتسابه ، ثم أنه لا ينتفع ، إِلاَّ بالقليلِ مِنْ تلك الأموال ، فالتعبُ كثيرٌ ، والنفعُ قليلٌ ، ثم قالَ : واعلم أنَّ الدنْيَا حلوةٌ خَضِرةٌ ، والحواسُّ الخمسُ مائلةٌ إِليها ، فإِذا كَثُرت وتوالَتْ استغرقت فيها ، وانصرف الإِنسان بكلِّيته إِليها ، فيصير ذلك سبباً لحرمانه من ذكْرِ اللَّهِ ، ثم أنه يحْصُلُ في قلبه نَوْعُ قسوةٍ وقوةٍ وقهْرٍ ، وكلَّما كان المال والجاهُ أَكثر ، كَانَتْ تلك القسوةُ أَقوَى ، وإِلى ذلك الإِشارةُ بقوله تعالى : { إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّءَاهُ استغنى } [ العلق : 6 ، 7 ] فظهر أن كثرة الأموال والأولاد سَبَبٌ قويٌّ في زوال حُبِّ اللَّه تعالى وحبِّ الآخرة مِنَ القَلْبِ ، وفي حصول الدنْيَا وشهواتِهَا في القَلْبِ وعنْدَ الموت ؛ كأَنَّ الإِنسان ينتقلُ من البستان إلى السِّجْن ، ومِنْ مجالسة الأقرباءِ والأحبَّة إِلَى موضعِ الغُرْبَة والكُرْبة ، فيعظُمُ تألمُّه ، ويقوَى حزنه ، ثم عند الحَشْر : حَلاَلُهَا حسابٌ ، وحرامُها عِقَابٌ ، فثبت أن كثرة الأمْوَالِ والأولادِ سَبَبٌ لحصولِ العَذَاب في الدُّنْيا والآخرة .