روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ} (4)

{ وَمَا تَفَرَّقَ الذين أَتَوْا الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة } فإنه ظاهر في أن كفرهم قد زاد عند ذلك فقال جار الله كان الكفار من الفريقين يقولون قبل المبعث لا ننفك عما نحن فيه من ديننا حتى يبعث الله تعالى النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل وهو محمد صلى الله عليه وسلم فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه ثم قال سبحانه : { وَمَا تَفَرَّقَ } الخ يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول ثم ما فرقهم عن الحق وأقرهم على الكفر إلا مجيئه ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه لست بمنفك مما أنا فيه حتى يرزقني الله تعالى الغنى فيرزقه الله عز وجل ذلك فيزداد فسقاً فيقول واعظه لم تكن منفكاً عن الفسق حتى توسر وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار يذكره ما كان يقوله توبيخاً وإلزاماً وحاصله أن الأول من باب الحكاية لزعمهم وقوله سبحانه : { وَمَا تَفَرَّقَ } الخ إلزام عليهم حكى الله تعالى كلامهم على سبيل التوبيخ والتعيير فقال هذا هو الثمرة وظاهره أنه أراد بتفرقهم تفرقهم عن الحق وحمل على الثبات على الكفر والباطل لاستلزامه إياه وعدم التعرض للمشركين في قوله تعالى : { وَمَا تَفَرَّقَ } الخ لعلم حالهم من حال الذين أوتوا الكتاب بالأولى روقيل وهو قريب من ذاك من وجه وفيه إيضاح له من وجه أي لم يكونوا منفكين عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق والإيمان بالرسول المبعوث في آخر الزمان إلى أن أتاهم ما جعلوه ميقاتاً للاجتماع والاتفاق فاجعلوه ميقاتاً للانفكاك والافتراق كما قال سبحانه : { وَمَا تَفَرَّقَ } الخ وفي التعبير بمنفكين إشارة إلى وكادة وعدهم وهو من أهل الكتاب مشهور حتى أنهم كانوا يستفتحون ويقولون اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان ويقولون لأعدائهم من المشركين قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ومن المشركين لعله وقع من متأخريهم بعد ما شاع من أهل الكتاب واعتقدوا صحته مما شاهدوا مثلاً من بعض من يوثق به بينهم من قومهم كزيد بن عمرو بن نفيل فقد كان يتطلب نبياً من العرب ويقول قد أظل زمانه وأنه من قريش بل من بني هاشم بل من بني عبد المطلب ويشهد لذلك أنهم قبيل بعثته عليه الصلاة والسلام سمي منهم غير واحد ولده بمحمد رجاء أن يكون النبي المبعوث { والله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] والتعبير عن إتيانه بصيغة المضارع باعتبار حال المحكي لا باعتبار حال الحكاية كما في قوله تعالى : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين } [ الأنعام : 102 ] أي تلت وقوله تعالى : { وَمَا تَفَرَّقَ } الخ كلام مسوق لمزيد التشنيع على أهل الكتاب خاصة ببيان أن ما نسب إليهم من الانفكاك لم يكن لاشتباه في الأمر بل بعد وضوح الحق وتبين الحال وانقطاع الأعذار بالكلية وهو السر في وصفهم بإيتاء الكتاب المنبئ عن كمال تمكنهم من مطالعته والإحاطة بما في تضاعيفه من الأحكام والأخبار التي من جملتها ما يتعلق بالنبي عليه الصلاة والسلام وصحة بعثته بعد ذكرهم فيما سبق بما هو جار مجرى اسم الجنس للطائفتين ولما كان هؤلاء والمشركون باعتبار اتفاقهم على الرأي المذكور في حكم فريق واحد عبر عما صدر منهم عقيب الاتفاق عند الإخبار بوقوعه بالانفكاك وعند بيان كيفية وقوعه بالتفرق اعتبار الاستقلال كل من فريقي أهل الكتاب وإيذاناً بأن انفكاكهم عن الرأي المذكور ليس بطريق الاتفاق على رأي آخر بل بطريق الاختلاف القديم وتعقب التقريران بأنه ليس في الكلام ما يدل على أنه حكاية ولا على إرادة منفكين عن الوعد باتباع الحق وقال القاضي عبد الجبار المعنى لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة وتعقبه الإمام بأن فتسير لفظ حتى بما ذكر ليس من اللغة في شيء ولعله أراد أن المراد استمرار النفي وإن في الكلام حذفاً أي لم يكونوا منفكين عن كفرهم في وقت من الأوقات حتى وقت أن تأتيهم البينة إلا أنه عبر بما ذكر لأنه أخصر وفيه أيضاً ما لا يخفى وقيل المعنى لم يكونوا منفكين عن ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمناقب والفضائل إلى أن أتاهم فحينئذٍ تفرقوا فيه وقال كل منهم فيه عليه الصلاة والسلام قولاً زوراً وتعقب بأنه لا دلالة على إرادة ما قدر متعلق الانفكاك وقيل المعنى لم يكونوا منفكين عن كفرهم إلى وقت مجىء الرسول صلى الله عليه وسلم فلما جاءهم تفرقوا فمنهم من آمن ومنهم من أصر على كفره ويكفي ذلك في العمل بموجب حتى وتعقب بأن ظاهر وما تفرق الخ ذم لجميعهم وتشنيع عليهم ويؤيده قوله سبحانه بعد : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب } [ البينة : 6 ] الخ ويبعد ذلك على حمل التفرق على إيمان بعض وإصرار بعض وقيل المعنى لم يكونوا منفكين عن كفرهم بأن يترددوا فيه بل كانوا جازمين به معتقدين حقيته إلى أن أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعند ذلك اضطربت خواطرهم وأفكارهم وتشكك كل في دينه ومقالته وفيه ما لا يخفى وقيل معنى منفكين هالكين من قولهم انفك صلا المرأة عند الولادة وهو أن ينفصل فلا يلتئم والمعنى لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وقريب منه معنى ما قيل لم يكونوا منفكين عن الحياة بأن يموتوا ويهلكوا حتى تأتيهم البينة وهو كما ترى وقيل المراد أنهم لم ينفكوا عن دينهم حقيقة إلى مجىء الرسول التالي للصحف المبينة نسخة وبطلانه ولما جاء وتبين ذلك انفكوا عنه حقيقة وإن بقوا عليه صورة وفيه ما فيه وقال أبو حيان الظاهر أن المعنى لم يكونوا منفكين أي منفصلاً بعضهم عن بعض بل كان كل منهم مقراً الآخر على ما هو عليه مما اختاره لنفسه هذا من اعتقاده بشريعته وهذا من اعتقاده بأصنامه وحاصله أنه اتصلت مودتهم واجتمعت كلمتهم إلى أن أتتهم البينة وما تفرق الذين أوتوا أي من المشركين وانفصل بعضهم من بعض فقال كل ما يدل عنده على صحة قوله إلا من بعد ما جاءتهم البينة وكان يقتضي عند مجيئها أن يجتمعوا على اتباعها ولا يخفى أن قوله : { بَلْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ } الخ في حيز المنع وأيضاً حمل وما تفرق على ما حمله عليه غير ظاهر وقال ابن عطية ههنا وجه بارع المعنى وذلك أن يكون المراد لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره سبحانه حتى يبعث عز وجل إليهم رسولاً منذراً يقيم تعالى عليهم به الحجة ويتم على من آمن به النعمة فكأنه قال ما كانوا ليتركوا سدى ولهذا نظائر في كتاب الله جل جلاله هذا ما ظفرنا به سؤالاً وجواباً وجرحاً وتعديلاً ثم إني أقول ما تقدم في تقرير الإشكال مبني على مذهب القائلين بمفهوم الغاية وهم أكثر الفقهاء وجماعة من المتكلمين كالقاضي أبي بكر والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وغيرهم دون مذهب الغير القائلين به وهم أصحاب الإمام أبي حنيفة وجماعة من الفقهاء والمتكلمين واختاره الآمدي واستدل عليه بما استدل ورد ما يعارضه من أدلة المخالف وعليه يمكن أن يقال إنه سبحانه وتعالى بين أولاً حال الذين كفروا من الفريقين إلى وقت إتيان الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله عز وجل : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكّينَ } [ البينة : 1 ] أي عما هم عليه من الدين حسب اعتقادهم فيه إلى أن يأتيهم الرسول ولما لم يتعرض في ذلك على ذلك المذهب لحالهم بعد إتيان الرسول عليه الصلاة والسلام بينه سبحانه بقوله جل وعلا : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } الخ أي وما تفرقوا فعرف بعض منهم الحق وآمن وعرفه بعض آخر منهم وعاند فلم يؤمن في وقت من الأوقات إلا من بعد ما جاءتهم البينة وطوى سبحانه ذكر حال المشركين لعلمه بالأولى من حالهم ثم إنه تعالى ذكر بعد حال كل من الفريقين المؤمن والكافر وماله في الآخرة بقوله سبحانه : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } [ البينة : 6 ] الخ وقوله تعالى : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ } [ البينة : 7 ] الخ والذي أميل إليه مما تقدم كون الانفكاك عن الوعد باتباع الحق ولعل القرينة على اعتباره حالية ويحتمل نحواً آخر من التوجيه وذلك بأن يجعل الكلام من باب الأعمال فيقال إن منفكين يقتضي متعلقاً هو المنفك عنه وتأتيهم يقتضي فاعلاً وليس في الكلام سوى البينة فكل منهما يقتضيه فاعمل فيه تأتيهم وحذف معمول منفكين لدلالته عليه فكأنه قيل لم يكن الذين كفروا من الفريقين منفكين عن البينة حتى تأتيهم البينة وحيث كان المراد بالبينة الرسول كان الكلام في قوة لم يكونوا منفكين عن الرسول حتى يأتيهم ويراد بعدم الانفكاك عن الرسول حيث لم يكن موجوداً إذ ذاك عدم الانفكاك عن ذكره والوعد باتباعه ويكون باقي الكلام في الآية على نحو ما سبق على تقدير إرادة منفكين عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق وإن شئت قلت في قوله تعالى : { وَمَا تَفَرَّقَ } الخ أنه على معنى وما تفرق الذين أوتوا الكتاب عن الرسول ما انفكوا عنه بالإصرار على الكفر إلا من بعد ما جاءهم فتأمل جميع ما أتيناك به والله تعالى أعلم بأسرار كتابه .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ} (4)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } يعني اليهود والنصارى في أمر محمد صلى الله عليه وسلم { إلا من بعد ما جاءتهم البينة } يعني البيان ، يقول الله تعالى : لم يزل الذين كفروا مجتمعين على تصديق محمد صلى الله عليه وسلم ، حتى بعث ؛ لأنه نعته معهم في كتبهم ، فلما بعثه الله عز وجل من غير ولد إسحاق اختلفوا فيه ، فآمن بعضهم : عبد الله بن سلام وأصحابه من أهل التوراة ، ومن أهل الإنجيل أربعون رجلا ... وكذب به سائر أهل الكتاب . ...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول : وما تفرّق اليهود والنصارى في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، فكذّبوا به ، إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، يعني : من بعد ما جاءت هؤلاء اليهود والنصارى البيّنةُ ، يعني : بيان أمر محمد ، أنه رسول بإرسال الله إياه إلى خلقه ، يقول : فلما بعثه الله تفرّقوا فيه ، فكذّب به بعضهم ، وآمن بعضهم ، وقد كانوا قبل أن يُبعث غير مفترقين فيه أنه نبيّ .

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

يقول أهل التأويل : إنما تفرقوا من بعد ما جاءتهم البينة ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ... وهو يخرج على وجهين :

أحدهما : ما تفرقوا في محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما جاءهم العلم به ، عند ذلك تفرقوا فيه ، فأما قبل ذلك فكانوا مجتمعين فيه كلهم .

والثاني : ما تفرقوا في الدين والمذهب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، أي عن بيان وعلم تفرقوا في الدين . وفي ما تفرقوا فيه هو ما جعل في خلقة كل واحد دلالة التوحيد والربوبية له ما لو تفكروا لعرفوا أن الله واحد . والبينة تحتمل من هذا الموضع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ونفس الخلقة على ما ذكرنا . ...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

إخبار من الله تعالى أن هؤلاء الكفار لم يختلفوا في نبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأنهم مجمعون على نبوته بما وجدوه في كتبهم من صفاته ، فلما أتاهم بالبينة الظاهرة والمعجزة القاهرة تفرقوا واختلفوا ، فآمن بعضهم وكفر بعضهم ...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت : لم جمع بين أهل الكتاب والمشركين أوّلاً ثم أفرد أهل الكتاب في قوله : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } ؟ قلت : لأنهم كانوا على علم به لوجوده في كتبهم ، فإذا وصفوا بالتفرق عنه كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف . ...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

ثم ذكر تعالى مذمة من لم يؤمن من أهل الكتاب من بني إسرائيل من أنهم لم يتفرقوا في أمر محمد إلا من بعد ما رأوا الآيات الواضحة ، وكانوا من قبل مصفقين على نبوته وصفته ، فلما جاء من العرب حسدوه . ...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

المقصود من هذه الآية تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم أي لا يغمنك تفرقهم فليس ذلك لقصور في الحجة بل لعنادهم ، فسلفهم هكذا كانوا لم يتفرقوا في السبت وعبادة العجل : { إلا من بعد ما جاءتهم البينة } فهي عادة قديمة لهم . ...

أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :

وإفراد أهل الكتاب بعد الجمع بينهم وبين المشركين للدلالة على شناعة حالهم ، وأنهم لما تفرقوا مع علمهم كان غيرهم بذلك أولى . ...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

{ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } : أي من المشركين ، وانفصل بعضهم من بعض فقال : كل ما يدل عنده على صحة قوله . { إلا من بعد ما جاءتهم البينة } : وكان يقتضي مجيء البينة أن يجتمعوا على اتباعها ..... والمراد بتفرقهم : تفرقهم عن الحق ، أو تفرقهم فرقاً ، فمنهم من آمن ، ومنهم من أنكر وقال : ليس به ومنهم من عرف وعاند . ...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ وما تفرق } أي الآن وفيما مضى من الزمان تفرقاً عظيماً { الذين } ولما كانوا في حال هي أليق بالإعراض ، بنى للمفعول قوله : { أوتوا الكتاب } أي عما كانوا عليه من الإطباق على الضلال ، أو الوعد باتباع الحق المنتظر في محمد صلى الله عليه وسلم ...{ إلا من بعد } وكان ذلك الزمن اليسير هو بإسلام من أسلم من قبائل العرب الذين كانوا قد أطبقوا على النصرانية ....وكذا من كان تهود من قبائل اليمن وأسلم ...فلم يسلم منهم إلا من لا يعد لقلته مفرقاً لهم { ما } أي الزمن الذي { جاءتهم } فيه ، أو مجيء { البينة } ...وقد كان مجيء البينة يقتضي اجتماعهم على الحق ، لا تفرقهم فيه ، وكأنه أشار إلى المشركين بالعاطف ، ولم يصرح بذكرهم ؛ لأنهم كانوا عكس أهل الكتاب لم يتفرقوا إلا زمناً يسيراً في أول الأمر ، فكان الضال منهم أكثر ، ثم أطبقوا على الهدى لما لهم من قويم الطبع ، ومعتدل المزاج ، فدل ذلك على غاية العوج لأهل الكتاب ؛ لأنهم كانوا لما عندهم من العلم أولى من المشركين بالاجتماع على الهدى ، ودل ذلك على أن وقوع اللدد والعناد من العالم أكثر ، وحصوله الآفة لهم من قوة ما لطباعهم من كدر النقص بتربيته وتنميته بالمعاصي من أكل السحت من الربا وغيره من الكبائر والتسويف بالتوبة ، فألفت ذلك أبدانهم فأشربته قلوبهم حتى تراكم ظلامها ، وتكاثف رينها وغمامها ، فلما دعوا لم يكن عندهم شيء من نور تكون لهم به قابلية الانقياد للدعاء . ...

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

كلامٌ مسوقٌ لغايةِ تشنيعِ أهلِ الكتابِ خاصَّةٌ ، وتغليظِ جناياتِهم ، ببيانِ أنَّ ما نسبَ إليهمْ من الانفكاكِ لم يكُنْ لاشتباهٍ مَا في الأمرِ ؛ بلْ كانَ بعدَ وضوحِ الحقِّ ، وتبينِ الحالِ ، وانقطاعِ الأعذار بالكليةِ ، وهُوَ السرُّ في وصفِهم بإيتاءِ الكتابِ المنبئِ عن كمالِ تمكنِهم منْ مطالعتِه ، والإحاطةِ بَما فِي تضاعيفِه من الأحكامِ والأخبارِ التي مِنْ جُملتِها نعوتُ النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ......{ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة } استثناءٌ مفرغٌ منْ أعمِّ الأوقاتِ ، أيْ وما تفرقُوا في وقتٍ منَ الأوقاتِ إلا منْ بعدِ ما جاءتُهمْ الحجةُ الواضحةُ الدالَّةُ على أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم هو الموعودُ في كتابِهم دلالةً جليةً لا ريبَ فيَها...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

ثم خص كتاب الله بالذكر " أهل الكتاب " من اليهود والنصارى لعظم مسؤوليتهم ، فقد كانوا على علم بظهور الرسول " الخاتم " والرسالة " الخاتمة " ، وكانوا يبشرون المشركين ببعثته ورسالته ، مبينا ما آل إليه أمرهم بعد ظهور الرسول والرسالة من الجحود والإنكار ، والحسد والاستكبار ، مما كان له أثر كبير على المشركين في التمسك بشركهم ، اقتداء بتمسك الكافرين بكفرهم ، فقال تعالى : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعدما جاءتهم البينة } ، والمراد " بتفرقهم " تفرقهم عن الحق ، أو تفرقهم فرقا ، فمنهم من آمن ، ومنهم من أنكر ، ومنهم من عرف الحق وعاند .

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

الآيات الاُولى لهذه السّورة المباركة تتحدث عن أهل الكتاب والمشركين الذين كانوا يدعون أنّهم سوف يقبلون الدعوة إنّ جاءهم نبيّ بالدلائل الساطعة . لكنّهم أعرضوا حين ظهر ، وجابهوه ، إلاّ فريق منهم آمن واهتدى . وهذا المعنى يشبه ما جاء في قوله تعالى : { ولما جاءهم كتاب من عند اللّه مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين } . نعلم أنّ أهل الكتاب كانوا ينتظرون مثل هذا الظهور ، ولابدّ أن يكون مشركو العرب مشاركين لأهل الكتاب في هذا الانتظار لما كانوا يرون فيهم من علم ومعرفة ، ولكن حين تحققت آمالهم غيّروا مسيرهم والتحقوا بأعداء الدعوة . جمع من المفسّرين لهم رأي آخر في تفسير الآية ، يقولون : مقصود الآية هو أنّ أهل الكتاب والمشركين لم يكونوا منفكّين عن دينهم حقيقةً لا ادعاءً حتى تأتيهم البيّنة . وهذا يعني أنّ هؤلاء آمنوا بعدما جاءتهم البيّنة .....

ثمّة تفسير ثالث للآية هو أنّ اللّه لا يترك أهل الكتاب والمشركين لحالهم حتى يتمّ الحجّة عليهم ، ويرسل إليهم البيّنة ، ويبيّن لهم الطريق . ولذلك أرسل إليهم نبيّ الإسلام لهدايتهم . بناء على هذا التّفسير ، هذه الآية تشير إلى قاعدة اللطف التي يتناولها علم الكلام ، وتقرر أن اللّه يبعث إلى كلّ قوم دلائل واضحة ليتمّ الحجّة عليهم . على أي حال ، «البيّنة » في الآية هي الدليل الواضح ، ومصداقها حسب الآية الثّانية شخص «رسول اللّه » وهو يتلو عليهم القرآن . «صحف » جمع «صحيفة » ، وتعني ما يكتب عليه من الورق ، والمقصود بها هنا محتوى هذه الأوراق ، إذ نعلم أنّ الرّسول الأعظم( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكن يتلو شيئاً عليهم من الأوراق . و«مطهرّة » أي طاهرة من كلّ ألوان الشرك والكذب والباطل . ومن تلاعب شياطين الجن والإنس . كما جاء أيضاً في قوله تعالى : { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } جملة { فيها كتب قيمة } إشارة إلى أنّ ما في هذه الصحف السماوية خال من الانحراف والاعوجاج . من هنا فإنّ هذه «الكتب » تعني المكتوبات ، أو تعني الأحكام والتشريعات المنصوصة من اللّه ؛ لأنّ الكتابة جاءت بمعنى تعيين الحكم أيضاً ، كقوله تعالى : { كتب عليكم الصّيام كما كتب على الذين من قبلكم } . وبهذا يكون معنى «قيمة » السويّة والمستقيمة ، أو الثابتة والمستحكمة ، أو ذات قيمة ، أو كل هذه المعاني مجتمعة . ويحتمل أيضاً أن يكون المعنى هو أن القرآن فيه الكتب السماوية القيّمة السابقة ؛ لأنّه يضم جميع محتوياتها وزيادة . ويلفت النظر تقدم ذكر أهل الكتاب على المشركين في الآية الأولى ، والاقتصار على ذكر أهل الكتاب في الآية الرابعة دون ذكر المشركين ، بينما الآية تريد الاثنين . وهذا يعود ظاهراً إلى أنّ أهل الكتاب كانوا هم الروّاد في هذه المواقف ، وكان المشركون تابعين لهم . أو لأنّ أهل الكتاب كانوا أهلاً لذم أكثر لما عندهم من علماء كثيرين....معارضتهم إذن أفظع وأبشع وتستحق مزيداً من التقريع .