روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة القدر

قال أبو حيان مدنية في قول الأكثر وحكى الماوردي عكسه وذكر الواحدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة وقال الجلال في الإتقان فيها قولان والأكثر على أنها مكية ويستدل لكونها مدنية بما أخرجه الترمذي والحاكم عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أرى بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت إنا أعطيناك الكوثر ونزلت أنا أنزلناه في ليلة القدر الحديث وهو كما قال المزني حديث منكر انتهى وقدر أخرج الجلال هذا الحديث في الدر المنثور عن ابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أيضا من رواية يوسف بن سعد وذكر فيه أن الترمذي أخرجه وضعفه وأن الخطيب أخرج عن ابن عباس نحوه وكذا عن ابن المسيب بلفظ قال نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم أرأيت بني أمية يصعدون منبري فشق ذلك علي فأنزلت إنا أنزلناه في ليلة القدر ففي قول المزني هو منكر تردد عندي وأيا ما كان فقد استشكل وجه دلالته على كون السورة مدنية وأجيب بأنه يحتمل أن يكون ذلك لقوله فيه على منبره والظاهر أن يكون المنبر موجودا زمن الرؤيا وهو لم يتخذ إلا في المدينة وآيها ست في المكي والشامي وخمس فيما عداهما وجاء في حديث أخرجه محمد بن نصر عن أنس مرفوعا أنها تعدل ربع القرآن وذكر غير واحد من الشافعية أنه يسن قراءتها بعد الوضوء وقال بعض أئمتهم ثلاثا ووجه مناسبتها لما قبلها أنها كالتعليل للأمر بقراءة القرآن المتقدم فيه كأنه قيل اقرأ القرآن لأن قدره عظيم وشأنه فخيم وقال الخطابي المراد بالكتابة في قوله تعالى فيها أنا أنزلناه إلى قوله تعالى ولذا وضعت بعد وارتضاه القاضي أبو بكر بن العربي وقال هذا بديع جدا والظاهر أنه أراد أن الضمير المنصوب في ذاك لأقرأ الخ على ما ستسمعه أن شاء الله تعالى أراد أنه للمقروء من قرأ فيكون في معنى رجوعه للقرآن خلاف الظاهر فلا تغفل .

{ إِنَّا أنزلناه فِي لَيْلَةِ القدر } الضمير عند الجمهور للقرآن وادعى الإمام فيه إجماع المفسرين وكأنه لم يعتد بقول من قال منهم برجوعه لجبريل عليه السلام أو غيره لضعفه قالوا في التعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدم ذكره تعظيم له أي تعظيم لما أنه يشعر بأنه لعلو شأنه كأنه حاضر عند كل أحد فهو في قولة المذكور وكذا في إسناد إنزاله إلى نون العظمة مرتين وتأكيد الجملة وأشار الزمخشري إلى إفادة الجملة اختصاص الإنزال به سبحانه بناء على أنها من باب أنا سعيت في حاجتك مما قدم فيه الفاعل المعنوي على الفعل وتعقب بأن ما ذكروه في الضمير المنفصل دون المتصل كما في اسم أن هنا نعم الاختصاص يفهم من سياق الكلام وفيه أنهم لم يصرحوا باشتراط ما ذكر وكذا في تفخيم وقت إنزاله بقوله تعالى : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر } لما فيه من الدلالة على أن علوها خارج عن دائرة دراية الخلق لا يعلم ذلك ولا يعلم به إلا علام الغيوب كما يشعر به قوله سبحانه : { لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } فإن بيان إجمالي لشأنها أثر تشويقه عليه الصلاة والسلام إلى درايتها فإن ذلك معرب عن الوعد بإدرائها وعن سفيان بن عيينية أن كل ما في القرآن من قوله تعالى : { مَا أَدْرَاكَ } [ الحاقة : 3 ] أعلم الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم وما فيه من قوله سبحانه { وَمَا يُدْرِيكَ } [ الأحزاب : 63 ] لم يعلمه عز وجل به وقد مر بيان كيفية إعراب الجملتين وفي إظهار ليلة القدر في الموضعين من تأكيد التعظيم والتفخيم ما لا يخفى والمراد بإنزاله فيها إنزاله كله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا فقد صح عن ابن عباس أنه قال أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى السماء الدنيا وكان بمواقع النجوم وكان الله تعالى ينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه في أر بعض وفي رواية بدل وكان بمواقع الخ ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة وفي رواية أخرى عنه أيضاً أنزل القرآن جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا ونزل به جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم بجواب كلام العباد وأعمالهم وفي أخرى أنه أنزل في رمضان ليلة القدر جملة واحدة ثم أنزل على مواقع النجوم رسلاً في الشهور والأيام وكون النزول بعد في عشرين سنة قول لهم وقال بعضهم وهو الأشهر في ثلاث وعشرين وقال آخر في خمس وعشرين وهذا للخلاف في مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة بعد البعث وقال الشعبي المراد ابتدأنا بإنزاله فيها والمشهور أن أول ما نزل من الآيات { اقرأ } وأنه كان نزولها بحراء نهاراً نعم في «البحر » روى أن نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر من رمضان فإن صح وكان المراد كان ليلاً فذاك وإلا فظاهر كلام الشعبي غير مستقيم اللهم إلا أن يقال أنه أراد ابتداء إنزاله إلى السماء الدنيا فيها ولا يلزم أن يتحد ذلك وابتدأ إنزاله عليه صلى الله عليه وسلم في الزمان ثم أن في أنزلناه على ما ذكر تجوزاً في الإسناد لأنه أسند فيه ما للجزء إلى الكل أو مجازاً الطرف أو تضميناً وقي المراد إنزاله من اللوح إلى السماء الدنيا مفرقاً في ليالي قدر على أن المراد بليلة الجنس فقد قيل إن القرآن أنزل إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين وكان ينزل في كل ليلة ما يقدر الله تعالى إنزاله في كل السنة ثم ينزله سبحانه منجماً في جميع السنة وهذا القول ذكره الإمام احتمالاً ونقله القرطبي كما قال ابن كثير عن مقاتل لكنه مما لا يعود عليه والصحيح المعتمد عليه كما قال ابن حجر في «شرح البخاري » أنه أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا بل حكى بعضهم الإجماع عليه نعم لا يبعد القول بأن السفرة هناك نجموه لجبريل عليه السلام في الليالي المذكورة وأجاب السيد عيسى الصفوي بأنه لا محذور في ذلك بناء على جواز مثل أتكلم مخبراً به عن التكلم بقولك أتكلم وفي ذلك اختلاف بين الدواني وغيره ذكره في رسالته التي ألفها في الجواب عن مسألة الحذر الأصم أو يقال يرجع الضمير للقرآن باعتبار جملته وقطع النظر عن أجزائه فيخبره عن الجملة بأنا أنزلنا وإن كان من جملته إنا أنزلناه المندرج في حملته من غير نظير له بخصوصه وقد ذكروا أن الجزء من حيث هو مستقل مغاير له من حيث هو في ضمن الكل وفي الاتقان عن أبي شامة فإن قلت إنا أنزلنا إن لم يكن من جملة القرآن الذي نزل جملة فما نزل جملة وإن كان من الجملة فما وجه هذه العبارة قلت لها وجهان أحدهما أن يكون المعنى إنا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر وقضينا به وقدرناه في الأزل والثاني أن لفظ أنزلناه ماض ومعناه على الاستقبال أي تنزله جملة في ليلة القدر انتهى ولم يظهر لي في كلا وجهيه رحمه الله تعالى شامة حسن فأجل في ذلك نظراً فلعلك ترى وقيل المعنى إنا أنزلناه في فضل ليلة القدر أو في شأنها وحقها فالكلام على تقدير مضاف أو الظرفية مجازية كما في قول عمر رضي الله تعالى عنه خشيت أن ينزل في قرآن وقول عائشة رضي الله تعالى عنها لأنا أحقر في نفسي من أن ينزل في قرآن وجعل بعضهم في في ذلك للسببية والضمير قيل للقرآن بالمعنى الدائر بين الكل والجزء وقيل بمعنى السورة ولا يأباه كون أنا أنزلناه فيها لما مر آنفاً فلا حاجة إلى أن يقال المراد بها ما عدا { إِنَّا أنزلناه } في ليلة القدر وقيل يجوز أن يراد به المجموع لاشتماله على ذلك وأياً ما كان فحمل الآية على هذا المعنى غير معول عليه وإنما المعول عليه ما تقدم والمراد بالإنزال إظهار القرآن من عالم الغيب إلى عالم الشهادة أو إثباته لدى السفرة هناك أو نحو ذلك مما لا يشكل نسبته إلى القرآن واختلفوا في تلك الليلة فقيل أنها رفعت لخبر في ذلك وهو كما قال الكرماني غلط لأن آخر الخبر يرده والمراد رفع تعيينها فيه وعكرمة أنها ليلة النصف من شعبان وهو قول شاذ غريب كما في «تحفة المحتاج » وظاهر ما هنا مع ظاهر قوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن } [ البقرة : 185 ] يرده وعن ابن مسعود أنها تنتقل في ليالي السنة فتكون في كل سنة في ليلة ونسبه النووي إلى أبي حنيفة وصاحبيه والأكثرون على أنها في شهر رمضان فعن ابن رزين أنها الليلة الأولى منه وعن الحسن البصري السابعة عشر لأن وقعة بدر كانت في صبيحتها وحكى عن زيد بن أرقم وابن مسعود أيضاً وعن أنس مرفوعاً التاسعة عشر وحكى موقوفاً على ابن مسعود أيضاً وعن محمد بن إسحق الحادية والعشرون لما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري أنه عليه الصلاة والسلام قال " قد رأيت هذه الليلة يعني ليلة القدر ثم نسيتها وقد رأيتني أسجد من صبيحتها في ماء وطين قال أبو سعيد فمطرت السماء من تلك الليلة فوكف المسجد فأبصرت عيناي رسول الله وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين " وفي «مسلم » " من صبيحة ثلاث وعشرين " ومنه مع ما قبله مال الشافعي عليه الرحمة إلى أنها الليلة الحادية أو الثالثة والعشرون وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن أنيس أنه سئل عن ليلة القدر فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " التمسوها الليلة " وتلك الليلة ليلة ثلاث وعشرين وأخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وغيرهم عن بلال قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليلة القدر ليلة أربع وعشرين " وفي الاتقان وغيره أنها الليلة التي أنزل فيها القرآن وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي ذر أنه سئل عن ليلة القدر فقال كان عمر وحذيفة وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشكون أنها ليلة سبع وعشرين وأخرج ابن نصر وابن جرير في تهذيبه عن معاوية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " التمسوا ليلة القدر في آخر ليلة من رمضان " وفي رواية أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً أنها آخر ليلة وقيل هي في العشر الأوسط تنتقل فيه وقيل في أوتاره وقيل في أشفاعه وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من شهر رمضان " وفي حديث أخرجه أحمد وجماعة عن عبادة بن الصامت مرفوعاً وحديثين أخرجهما ابن جرير وغيره عن جابر بن سمرة وعن عبد الله بن جابر كذلك ما يدل على ما ذكر أيضاً بل الأخبار الصحيحة الدالة عليه كثيرة وبالجملة الأقوال فيها مختلفة جداً إلا أن الأكثرين على أنها في العشر الأواخر لكثرة الأحاديث الصحيحة في ذلك وأكثرهم على أنها في أوتارها لذلك أيضاً وكثير منهم ذهب إلى أنها الليلة السابعة من تلك الأوتار وصح من رواية الإمام أحمد ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن حبان وغيرهم أن زرد بن حبيش سأل أبي بن كعب عنها فحلف لا يستثنى أنها ليلة سبع وعشرين فقال له بم تقول ذلك يا أبا المنذر فقال بالآية والعلامة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها تصبح من ذلك اليوم تطلع الشمس ليس لها شعاع وبعض الأخبار عن ابن عباس ظاهرة في ذلك وفي بعضها الاستئناس له بما يدل على جلالة شأن السبعة التي قالوا فيها إنها عدد تام من كون السموات سبعاً والأرضين سبعاً والأيام سبعاً والجمار سبعاً والطواف بالبيت سبعاً والسجود على سبع إلى غير ذلك مما ذكره لما علمت من الأخبار الصحيحة المتظافرة وهو زمان ضعف البدن وفيه يزيد أجر العمل ووقت قوة الاستعداد للتجليات لمزيد التصفية وأنها في الأوتار أرجى للأحاديث أيضاً مع أن الله تعالى وتر يحب الوتر وقال ابن حجر الهيثمي اختار جمع أنها لا تلزم ليلة بعينها من العشر الأواخر بل تنتقل في لياليه فعاماً أو أعواماً تكون وتراً إحدى أو ثلاثاً أو غيرهما وعاماً أو أعواماً تكون شفعاً اثنتين أو أربعاً أو غيرهما قالوا ولا تجتمع الأحاديث المتعارضة فيها إلا بذلك وكلام الشافعي رضي الله تعالى عنه في الجمع بين الأحاديث يقتضيه انتهى ولا يخفى أن الجمع بين الأحاديث يقتضيه انتهى ولا يخفى أن الجمع بذلك بين الأحاديث المتعارضة فيها مطلقاً مما لا يتسنى وإنما يتسنى الجمع بذلك بين الأحاديث المتعارضة فيها بالنظر إلى العشر وقيل في الجمع مطلقاً إنها تنتقل وما صح من التعيين في الجملة أو على التحقيق محمول على ليلة قدر في شهر رمضان مخصوص بأن يكون قد علم صلى الله عليه وسلم أنها في أول شهر رمضان فرض ليلة كذا فقال عليه الصلاة والسلام هي ليلة كذا أي في هذا الشهر رمضان المخصوص وعلم عليه الصلاة والسلام أنها في شهر رمضان بعده ليلة كذا غير تلك الليلة التي ذكرها قبل فقال صلى الله عليه وسلم هي ليلة كذا وعلم صلى الله عليه وسلم أنها في آخر في العشر الأخير منه فقال هي في العشر الأخير أي من هذا الشهر المخصوص وهكذا وهو كما ترى وعلى القول بانتقالها ادعى بعضهم أنه إذا كان أول الشهر ليلة كذا فهي الليلة السابعة والعشرون وإن كانت ليلة كذا فهي الليلة الحادية والعشرون إلى آخر ما قال وقد ذكرناه مع نظمه في الطراز المذهب وليس في ذلك ما يقوم حجة على الغير وفي بعض الأخبار ذكر علامات لها ففي حديث الإمام أحمد والبيهقي وغيرهما عن عبادة بن الصامت من إماراتها أنها ليلة بلجة صافية ساكنة لا حارة ولا باردة كأن فيها قمراً ساطعاً لا يرمى فيها بنجم حتى الصباح وأخرج نحواً منه ابن جرير في تهذيبه وابن مردويه عن جابر بن عبد الله مرفوعاً وحمل ذلك إن صح على ليلة قدر من شهر رمضان مخصوص كالمتعين لعدم إطراده ولا أغلبيته فيما يظهر والحكمة في إخفائها أن يجتهد من يطلبها في العبادة في غيرها ليصادفها كأن يحيى ليالي شهر رمضان كلها كما كان دأب السلف وللإمام في هذا المقام كلام يجل مثله عن التكلم بمثله ولعمري لقدسها فيه سهواً بيناً وأتى فيه بما يوشك أن يدل على جهله ومعنى ليلة القدر ليلة التقدير وسميت بذلك لما روى عن ابن عباس وغيره أنه يقدر فيها ويقضي ما يكون في تلك السنة من مطر ورزق وأحياء وإماتة إلى السنة القابلة والمراد إظهار تقديره تعالى ذلك للملائكة عليهم السلام المأمورين بالحوادث الكونية وإلا فتقديره تعالى جميع الأشياء أزلي قبل خلق السموات والأرض لكن قال بعض الأجلة كون التقدير في هذه الليلة يشكل عليه قول كثير أنه ليلة النصف من شعبان وهي المراد بالليلة المباركة التي قال الله تعالى فيها { يفرق كل أمر حكيم } [ الدخان : 4 ] وأجاب بأن ههنا ثلاثة أشياء الأول نفس تقدير الأمور أي تعيين مقاديرها وأوقاتها وذلك في الأكل والثاني إظهار تلك المقادير للملائكة عليهم السلام بأن تكتب في اللوح المحفوظ وذلك في ليلة النصف من شعبان والثالث إثبات تلك المقادير في نسخ وتسليمها إلى أربابها من المدبرات فتدفع نسخة الأرزاق والنباتات والأمطار إلى ميكائيل عليه السلام ونسخة الحروب والرياح والجنود والزلازل والصواعق والخسف إلى جبريل عليه السلام ونسخة الأعمال إلى إسرافيل عليه السلام ونسخة المصائب إلى ملك الموت وذلك في ليلة القدر وقيل يقدر في ليلة النصف الآجال والأرزاق وفي ليلة القدر الأمور التي فيها الخير والبركة والسلامة وقلي يقدر في هذه ما يتعلق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين وفي ليلة النصف يكتب أسماء من يموت ويسلم إلى ملك الموت والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وقال الزهري المعنى ليلة العظمة والشرف من قولهم رجل له قدر عند فلان أي منزلة وشرف وسميت بذلك لأن من أتى بفعل الطاعات فيها صار ذا قدر وشرف عند الله عز وجل أو لأن الطاعات لها فيها ذلك وقيل لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر بواسطة ملك ذي قدر على رسول ذي قدر لأمة ذات قدر وقيل لأنه يتنزل فيها ملائكة ذوات قدر وقال الخليل بن أحمد المعنى ليلة الضيق من { قدر عليه رزقه } [ الطلاق : 7 ] ضيق وسميت بذلك لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة عليهم السلام وخيريتها من ألف شهر باعتبار العبادة عند الأكثرين على معنى أن العبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر ولا يعلم مقدار خيريتها منها إلا هو سبحانه وتعالى وهذا تفضل منه تعالى وله عز وجل أن يخص ما شاء بما شاء ورب عمل قليل خير من عمل كثير ولا ينافي هذا قاعدة أن كل ما كثر وشق كان أفضل لخبر مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها " أجرك على قدر نصبك " لأنها أغلبية على ما قال غير واحد ولا شك أن العمل القليل قد يفضل الكثير باعتبار الزمان وباعتبار المكان وباعتبار كيفية الأداء كصلاة واحدة أديبت بجماعة فإنها تعدل خمساً وعشرين مرة صلاة مثلها أديت على الانفراد إلى غير ذلك نعم هذه الأفضلية قد تعقل في بعض وقد لاكما فيما نحن فيه ولا حجر على الله عز وجل ولا يعلم ما عنده سبحانه إلا هو جل شأنه وتخصيص الألف بالذكر قيل إما للتكثير كما في قوله تعالى : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } [ البقرة : 96 ] وكثيراً ما يراد بالاعداد ذلك وفي «البحر » حكاية أن المعنى عليه خير من الدهر كله أو لما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «سننه » عن مجاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من بني إسرائيل ليس السلاح في سبيل الله تعالى ألف شهر فعجب المسلمون من ذلك وتقاصرت إليهم أعمالهم فانزل الله تعالى السورة وأخرج ابن أبي حاتم عن علي بن عروة قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله تعالى ثمانين عاماً لم يعصوه طرفة عين فذكر أيوب وزكريا وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون فعجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك فأتاه جبريل عليه السلام فقال يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة فقد أنزل الله تعالى عليك خيراً من ذلك فقرأ عليه { إِنَّا أنزلناه } الخ ثم قال هذا أفضل مما عجبت أنت وأمتك منه فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر فأعطوا ليلة إن أحيوها كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد وقال أبو بكر الوراق كان ملك كل من سليمان وذي القرنين خمسمائة شهر فجعل الله تعالى العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيراً من ملكهما وفي هذا نظر لأن إن أريد بذي القرنين الأول فهو على القول به قد ملك أكثر من ذلك بكثير وإن أريد به الثاني أعني قاتل داراً فهو قد ملك أقل من ذلك بكثير وقيل أرى صلى الله عليه وسلم أعمار الأمم كافة فاستقصر أعمار أمته فخاف عليه الصلاة والسلام أن لا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله تعالى ليلة القدر وجعلها خيراً من ألف شهر لسائر الأمم وذكره الإمام مالك في الموطأ وقد سمعت ما يدل على أن الألف إشارة إلى ملك بني أمية وكان على ما قال القاسم بن الفضل ألف شهر لا يزيد يوم ولا ينقص يوم على ما قيل ثمانين سنة وهي ألف شهر تقريباً لأنها ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر ولا يعكر عل ذلك ملكهم في جزيرة الأندلس بعد لأنه ملك يسير في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب ولذا لم يعد من ملك منهم هناك من خلفائهم وقالوا بانقراضهم بهلاك مروان الحمار وطعن القاضي عبد الجبار في كون الآية إشارة لما ذكر بأن أيام بني أمية كانت مذمومة أي باعتبار الغالب فيبعد أن يقال في شأن تلك الليلة أنها خير من ألف شهر مذمومة

. ألم تر أن السيف ينقص قدره *** إذا قيل إن السيف خير من العصا

وأجيب بأن تلك الأيام كانت عظيمة بحسب السعادات الدنيوية فلا يبعد أن يقول الله تعالى أعطيتك ليلة في السعادات الدينية أفضل من تلك في السعادات الدنيوية فلا تبقى فائدة واختلف في أن تلك الليلة تستتبع يومها أم لا فقال الشعبي نعم يومها مثلها وقيل لعل الوجه فيه إن ذكر الليالي يستتبع الأيام ومنه إذا نذر اعتكاف ليلتين لزمتاه بيوميهما والكثير لا لكن قيل يسن الاجتهاد في يومها كما يسن فيها ولذا جاء في وصفها أن الشمس تطلع صبيحتها وليس لها شعاع كما تقدم أي لعظم أنوار الملائكة الصاعدين والنازلي فيها فإنه لا فائدة فيه سوى معرفة يومها ولا فائدة فيها لو لم يسن الاجتهاد فيه ومنع بأنه يجوز أن تكون الفائدة معرفتها نفسها ليجتهد فيها من قابل بناء على أنها لا تنتقل وظاهر الآية أنها أفضل من ليلة الجمعة والمسألة خلافية وأكثر الأئمة على أنها أفضل منها للآية ولأن الله تعالى أنزل فيها القرآن وهو هو ولم ينزله في غيرها ولأنه سبحانه أمر بطلبها فعن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : { وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } [ البقرة : 187 ] ليلة القدر ولأنه عز وجل جعلها ليلة الفرق والحكم فقال جل شأنه { فيها يفرق كل أمر حكيم } [ الدخان : 4 ] وسماها جل وعلا ليلة القدر أي التقدير ولما روى عن كعب أنه قال إن الله تعالى اختار الساعات فاختار ساعات أوقات الصلاة واختار الأيام فاختار يوم الجمعة واختار الشهور فاختار شهر رمضان واختار الليالي فاختار ليلة القدر فهي أفضل ليلة في أفضل شهر ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على العمل فيها فقد صح «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه » وفي رواية «وما تأخر » ونهى عليه الصلاة والسلام أن يخص ليلة الجمعة بقيام ويومها بصيام ولأنه سبحانه وتعالى أخفاها ولم يعينها كما أخفى سبحانه أعظم أسمائه عز وجل وكما أخفى جل شأنه أفضل الصلوات وهي الصلاة الوسطى إلى غير ذلك وذهب أكثر الحنابلة كأبي الحسن الجزري وعبد الله بن بطة وأبي حفص البرمكي وغيرهم إلى أن ليلة الجمعة أفضل لما أخرج مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يغفر الله تعالى ليلة الجمعة لأهل الإسلام أجمعين " وهذه فضيلة لم تجيء لغيرها ونحوه ما روى عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من ليلة جمعة إلا وينظر الله تعالى إلى خلقه ثلاث مرات فيغفر لمن لا يشرك بالله تعالى شيئاً " ولأنه روى ابن بشكوال في كتابه القربة إلى رب العالمين بسنده إلى عمر رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال " اكثروا الصلاة علي في الليلة الغراء واليوم الأزهر ليلة الجمعة ويوم الجمعة " والغرة من الشيء خياره ولأنه قد روى كثيرون منهم الإمام أحمد أن يومها سيد الأيام وأعظمها وأعظم عند الله تعالى من يوم الفطر ويوم الأضحى وصحح ابن حبان خبر لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة فهي لذلك سيدة الليالي وأعظمها وأفضلها ولأنها معينة مشهودة يشهدها الخاص والعام من ذكر وأنثى وصغير وكبير وبصير وضرير وتصل بركتها إلى الأحياء والأموات وليلة القدر غير معينة فلا ينتفع بها إلا قليل إلى غير ذلك وأجاب هؤلاء عن الآية بأنه لما أريد فيها أنها خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر كما قال قتادة وغيره فليرد أيضاً أنها خير من ألف شهر ليس فيها ليلة جمعة ويدل للأمرين أن أكثر أسباب النزول السابقة تدل على أن المراد بالشهور شهور من تقدمنا وهي ليس فيها ليلة قدر ولا ليلة جمعة وعن سائر المستندات بأن بعضها معارض وبعضها لا يدل على أكثر من فضلها وهو ما لم ينكره أحد والأولون أجابوا عن مستنداتهم بنحو ما أجابوا وللتعارض قال أحمد بن الحسين بن يعقوب بن قاسم المقري من الحنابلة أن القولين في المسألة قولان شائعان بين الأصحاب ولكل دلائل تدل على صوابيته فلا ينبغي لأحد أن يطلق الخطا على قائل كل منهما وأنت بعد التأمل في أدلة الطرفين والوقوف على أحوالها يتعين عندك أفضلية ليلة القدر وتعين ليلة الجمعة وههنا قول متوسط بين القولين حكى القاضي أبو يعلى أن أبا الحسن التميمي من الحنابلة أيضاً كان يقول ليلة القدر التي أنزل فيها القرآن أفضل من ليلة الجمعة لما حصل فيها من الخير الكثير الذي لم يحصل في غيرها فأما أمثالها من ليالي القدر فليلة الجمعة أفضل منها وقيل نظيره في ليلة المعراج مع ليلة الجمعة ونحوها ثم إن ظاهر كلام بعض الحنفية كصاحب الجوهرة أن ليلة النحر أفضل من ليلة القدر وسائر ليالي السنة ويرد عليه ظاهر الآية أيضاً ولعله يجيب بنحو ما سبق آنفاً ونقل الطحاوي عليه الرحمة في «حواشي الدر المختار » عن بعض الشافعية أن أفضل الليالي ليلة مولده عليه الصلاة والسلام ثم ليلة القدر ثم ليلة الإسراء والمعراج ثم ليلة عرفة ثم ليلة الجمعة ثم ليلة النصف من شعبان ثم ليلة العيد وأنا لا أرى أن له ما يعول عليه في ذلك والله تعالى أعلم وما أشير إليه من كونها من خصائص هذه الأمة هو الذي يقتضيه أكثر الأخبار الواردة في سبب النزول وصرح به الهيثمي وغيره وقال القسطلاني أنه معترض بحديث أبي ذر عند النسائي حيث قال فيه يا رسول الله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت قال بل هي باقية ثم ذكر أن عمدة القائلين بذلك الخبر الذي قدمناه في سبب النزول من رؤيته صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته عن أعمار الأمم وتعقبه بقوله هذا محتمل للتأويل فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان ابن كثير في «تفسيره » وابن حجر في فتح الباري انتهى والحق الأول والصراحة في حيز المنع وقد أخرج الديلمي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله تعالى وهب لأمتي ليلة القدر لم يعطها من كان قبلهم " فتأمل ولا تغفل .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة القدر مدنية .

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

مدنيّة في قول أكثر المفسرين ، قال علي بن الحسين بن واقد : هي أوّل سورة نزلت بالمدينة ، وروى شيبان عن قتادة أنها مكيّة ، وهي رواية نوفل بن أبي عقرب عن ابن عباس .

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

سورة القدر مكية في قول الأكثرين ، ومدنية في قول الضحاك . وذكر الواقدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة .

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

الحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال . ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى . ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته ، وفي دلالته ، وفي آثاره في حياة البشرية جميعا . العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري .

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

سميت هذه السورة في المصاحف التفسير وكتب السنة سورة القدر وسماها ابن عطية في تفسيره وأبو بكر الجصاص في أحكام القرآن سورة ليلة القدر . وهي مكية في قول الجمهور وهو قول جابر بن زيد ويروى عن ابن عباس . وعن ابن عباس أيضا والضحاك أنها مدنية، ونسبه القرطبي إلى الأكثر . وقال الواقدي : هي أول سورة نزلت بالمدينة ويرجحه أن المتبادر أنها تتضمن الترغيب في إحياء ليلة القدر، وإنما كان ذلك بعد فرض رمضان بعد الهجرة ... أغراضها: التنويه بفضل القرآن وعظمته بإسناد إنزاله إلى الله تعالى . . . والرد على الذين جحدوا أن يكون القرآن منزلا من الله تعالى . ورفع شأن الوقت الذي أنزل فيه ونزول الملائكة في ليلة إنزاله . وتفضيل الليلة التي توافق ليلة إنزاله من كل عام . ويستتبع ذلك تحرير المسلمين على تحين ليلة القدر بالقيام والتصدق . ...

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

في السورة تنويه بليلة القدر ، وتقرير إنزال القرآن فيها . وبعض الروايات تذكر أنها مدنية . غير أن جميع التراتيب المروية تسلكها في عداد السور المكية . وأسلوبها ووضعها في المصحف بعد سورة العلق قد يؤيدان مكيتها وتبكيرها في النزول . ...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

في هذه السورة المكية حديثٌ عن إنزال القرآن في ليلة القدر التي هي من الليالي التي لا يستطيع أحدٌ أن يبلغ الدرجة الحقيقية العميقة في تقدير عظمتها وقداستها ، حتى إنَّ هذه الليلة الواحدة تفوق في فضلها ألف شهر ، وتنفتح السماء في أجوائها ليتنزّل الملائكة والروح الموكلون بالمهمات التي يكلفهم الله بها من كل أمرٍ يتصل بالحياة والإنسان ، في ما يقدّره الله للناس في أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم . وهي - بعد ذلك - ليلة السلام الذي يغمر الكون من خلال ألطاف الله وفيوضاته على عباده ، والتي تستمر إلى مطلع الفجر ...

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

قوله : { إنا أنزلناه } يعني القرآن أنزله الله عز وجل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ... { في ليلة القدر } من شهر رمضان ...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره : إنا أنزلنا هذا القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القَدْر ، وهي ليلة الحُكْم التي يقضي الله فيها قضاء السنة ...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{ إنا أنزلناه في ليلة القدر } قال أهل التأويل : إن قوله : { أنزلناه } يعني ( القرآن ، ...فمن قال : أنزل القرآن في ليلة القدر ، فهم مختلفون ، قال بعضهم : أنزل القرآن جملة إلى السماء الدنيا من اللوح المحفوظ في تلك الليلة ، وهي في شهر رمضان ، كقوله : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } ( البقرة : 185 ) أي أنزل من اللوح المحفوظ ، ثم أنزل من السماء الدنيا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتفاريق على قدر الحاجة من الأمر والنهي والحلال والحرام والمواعظ وكل ما يحتاج إليه إلى العام القابل جملة ، ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما بالتفاريق ، والله أعلم ....

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

... وفي تسميتها ليلة القدر أربعة أوجه :

أحدها : لأن الله تعالى قدر فيها إنزال القرآن .

الثاني : لأن الله تعالى يقدر فيها أمور السنة ، أي يقضيها ، وهو معنى قول مجاهد .

الثالث : لعظم قدرها وجلالة خطرها ، من قولهم رجل له قدر ، ذكره ابن عيسى .

الرابع : لأن للطاعات فيها قدراً عظيماً وثواباً جزيلاً .

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

والقدر: كون الشيء على مساواة غيره من غير زيادة ولا نقصان ، ففي ليلة القدر تجدد الأمور على مقاديرها ، جعلها الله في الآجال والأرزاق والمواهب التي يجعلها الله للعباد ...

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

ليلة القدر عبارة عن الليلة التي ينكشف فيها شيء من الملكوت ، وهو المراد بقوله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } . ...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

عظم القرآن من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن أسند إنزاله إليه ، وجعله مختصاً به دون غيره.

والثاني : أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه.

والثالث : الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه . ...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ إنا } أي لما لنا من العظمة { أنزلناه } أي هذا الذكر كله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا مرتباً هذا الترتيب الذي جمع الله الأمة المعصومة عليه ، وهو الموجود الآن ...{ في ليلة القدر } أي الليلة التي لها قدر عظيم وشرف كبير ، والأعمال فيها ذات قدر وشرف ، فكانت بذلك كأنها مختصة بالقدر ، فلا قدر لغيرها...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

( إنا أنزلناه في ليلة القدر . وما أدراك ما ليلة القدر ? ) . . ( ليلة القدر خير من ألف شهر ) . .

والنصوص القرآنية التي تذكر هذا الحدث تكاد ترف وتنير . بل هي تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود . نور الله المشرق في قرآنه :( إنا أنزلناه في ليلة القدر )ونور الملائكة والروح وهم في غدوهم ورواحهم طوال الليلة بين الأرض والملأ والأعلى :

( تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ) . . ونور الفجر الذي تعرضه النصوص متناسقا مع نور الوحي ونور الملائكة ، وروح السلام المرفرف على الوجود وعلى الأرواح السارية في هذا الوجود :( سلام هي حتى مطلع الفجر ) .

والليلة التي تتحدث عنها السورة هي الليلة التي جاء ذكرها في سورة الدخان : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ، إنا كنا منذرين ، فيها يفرق كل أمر حكيم . أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين . رحمة من ربك إنه هو السميع العليم ) . . والمعروف أنها ليلة من ليالي رمضان ، كما ورد في سورة البقرة : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) . . أي التي بدأ فيها نزول القرآن على قلب الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ليبلغه إلى الناس . وفي رواية ابن إسحاق أن أول الوحي بمطلع سورة العلق كان في شهر رمضان ، ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يتحنث في غار حراء .

وقد ورد في تعيين هذه الليلة آثار كثيرة . بعضها يعين الليلة السابعة والعشرين من رمضان . وبعضها يعين الليلة الواحدة والعشرين . وبعضها يعينها ليلة من الليالي العشر الأخيرة . وبعضها يطلقها في رمضان كله . فهي ليلة من ليالي رمضان على كل حال في أرجح الآثار .

واسمها : ( ليلة القدر ) . . قد يكون معناه التقدير والتدبير . وقد يكون معناه القيمة والمقام . وكلاهما يتفق مع ذلك الحدث الكوني العظيم . حدث القرآن والوحي والرسالة . . وليس أعظم منه ولا أقوم في أحداث هذا الوجود . وليس أدل منه كذلك على التقدير والتدبير في حياة العبيد .

وهي خير من ألف شهر . والعدد لا يفيد التحديد . في مثل هذه المواضع من القرآن . إنما هو يفيد التكثير . والليلة خير من آلاف الشهور في حياة البشر . فكم من آلاف الشهور وآلاف السنين قد انقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة السعيدة من آثار وتحولات .

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

اشتملت هذه الآية على تنويه عظيم بالقرآن فافتتحت بحرف ( إنَّ ) وبالإِخبار عنها بالجملة الفعلية ، وكلاهما من طرق التأكيد والتقوّي .

ويفيد هذا التقديم قصراً وهو قصر قلب للرد على المشركين الذي نفوا أن يكون القرآن منزلاً من الله تعالى .

وفي ضمير العظمة وإسناد الإِنزال إليه تشريف عظيم للقرآن .

وفي الإِتيان بضمير القرآن دون الاسم الظاهر إيماء إلى أنه حاضر في أذهان المسلمين لشدة إقبالهم عليه فكون الضمير دون سبق معاد إيماء إلى شهرته بينهم .

فيجوز أن يراد به القرآنُ كلُّه فيكون فعل : « أنزلنا » مستعملاً في ابتداء الإِنزال لأن الذي أُنزل في تلك الليلة خمس الآيات الأول من سورة العلق ثم فتر الوحي ثم عاد إنزاله منجماً ولم يكمل إنزال القرآن إلا بعد نيف وعشرين سنة ، ولكن لما كان جميع القرآن مقرراً في علم الله تعالى مقدارُه وأنه ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم منجَّماً حتى يتم ، كان إنزاله بإنزال الآيات الأُول منه لأن ما ألحق بالشيء يعد بمنزلة أوله فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه " الحديث ، فاتفق العلماء على أن الصلاة فيما أُلْحق بالمسجد النبوي لها ذلك الفضل ، وأن الطواف في زيادات المسجد الحرام يصحّ كلما اتّسع المسجد .

ومن تسديد ترتيب المصحف أن وضعت سورة القدر عقب سورة العلق مع أنها أقلّ عدَد آياتٍ من سورة البينة وسُورٍ بعدها ، كأنه إماء إلى أن الضمير في { أنزلناه } يعود إلى القرآن الذي ابتدئ نزوله بسورة العلق .

ويجوز أن يكون الضمير عائداً على المقدار الذي أنزل في تلك الليلة وهو الآياتُ الخمسُ من سورة العلق فإن كل جزء من القرآن يسمى قرآناً ، وعلى كلا الوجهين فالتعبير بالمضي في فعل { أنزلناه } لا مجاز فيه . وقيل : أطلق ضمير القرآن على بعضه مجازاً بعلاقة البعضية .

والآية صريحة في أن الآيات الأوَل من القرآن نزلت ليلاً وهو الذي يقتضيه حديث بَدْء الوحي في « الصحيحين » لقول عائشة فيه : « فكان يتحنث في غار حراء اللياليَ ذواتِ العَدَد » فكان تعبده ليلاً ، ويظهر أن يكون الملك قد نزل عليه أثر فراغه من تعبده ، وأما قول عائشة : « فرجع بها رسول الله يرجف فُؤاده » فمعناه أنه خرج من غار حراء إثر الفجر بعد انقضاء تلقينه الآيات الخمس إذ يكون نزولها عليه في آخر تلك الليلة وذلك أفضل أوقات الليل كما قال تعالى : { والمستغفرين بالأسحار } [ آل عمران : 17 ] .

وليلة القدر : اسم جعله الله للَّيلة التي ابتدئ فيها نزول القرآن . ويظهر أن أول تسميتها بهذا الاسم كان في هذه الآية ولم تكن معروفة عند المسلمين وبذلك يكون ذكرها بهذا الاسم تشويقاً لمعرفتها ولذلك عقب بقوله : { وما أدراك ما ليلة القدر } [ القدر : 2 ] .

والقَدْر الذي عُرفت الليلة بالإضافة إليه هو بمعنى الشرفِ والفضل كما قال تعالى في سورة الدخان ( 3 ) : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } أي ليلة القدر والشرف عند الله تعالى مما أعطاها من البركة فتلك ليلة جعل الله لها شرفاً فجعلها مظهراً لما سبق به علمه فجعلها مبدأ الوحي إلى النبي .

والتعريف في { القدر } تعريف الجنس . ولم يقل : في ليلةِ قدرٍ ، بالتنكير لأنه قُصد جعل هذا المركب بمنزلة العلَم لتلك الليلة كالعلَم بالغلبة ، لأن تعريف المضاف إليه باللام مع تعريف المضاف بالإِضافة أوْغَلُ في جعل ذلك المركب لَقَباً لاجتماع تعريفين فيه .

وقد ثبت أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان قال تعالى : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } [ البقرة : 185 ] . ولا شك أن المسلمين كانوا يعلمون ذلك إذ كان نزول هذه السورة قبل نزول سورة البقرة بسنين إن كانت السورة مكية أو بمُدة أقل من ذلك إن كانت السورة مدنية ، فليلة القدر المرادة هنا كانت في رمضان وتأيد ذلك بالأخبار الصحيحة من كونها من ليالي رمضان في كل سنة .

وأكثر الروايات أن الليلة التي أنزل فيها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم كانت ليلةَ سَبْع عشرة من رمضان . وسيأتي في تفسير الآيات عقب هذه الكلامُ في هل ليلة ذات عدد متماثل في جميع الأعوام أو تختلف في السنين ؟ وفي هل تقع في واحدة من جميع ليالي رمضان أو لا تخرج عن العشر الأواخر منه ؟ وهل هي مخصوصة بليلة وترٍ كما كانت أول مرّة أوْ لا تختص بذلك ؟

والمقصود من تشريف الليلة التي كان ابتداء إنزال القرآن فيها تشريف آخر للقرآن بتشريف زمان ظهوره ، تنبيهاً على أنه تعالى اختار لابتداء إنزاله وقتاً شريفاً مباركاً لأن عظم قدر الفعل يقتضي أن يُختار لإِيقاعه فَضْل الأوقات والأمكنة ، فاختيار فضلِ الأوقات لابتداء إنزاله ينبئ عن علوّ قدره عند الله تعالى كقوله : { لا يمسه إلا المطهرون } [ الواقعة : 79 ] على الوجهين في المراد من المطهرين .