{ إِذْ جَاءتْهُمُ الرسل } أي جاءت عاداً وثمود ففيه إطلاق الجمع على الاثنين وهو شائع وكذا { الرسل } وقيل : يحتمل أن يراد ما يعم رسول الرسول ، وجوز في الأول أن يكون باعتبار أفراد القبيلتين ، وذكروا في { إِذْ } أوجها من الإعراب . الأول : أنه ظرف لأنذرتكم . الثاني : أنه صفة لصاعقة الأولى ، وأورد عليهما لزوم كون إنذاره عليه الصلاة والسلام والصاعقة التي أنذر بها واقعين في وقت مجيء الرسل عاداً وثمود وليس كذلك . الثالث : أنه صفة لصاعقة الثانية ، وتعقب بأنه يلزم عليه حذف الموصول مع بعض صلته وهو غير جائز عند البصريين أو وصف المعرفة بالنكرة . الرابع : واختاره أبو حيان أن معمول لصاعقة عاد وثمود بناء على أن المراد بها العذاب وإلا فهي بالمعنى المعروف جثة لا يتعلق بها الظرف وفيه شيء لا يخفى . الخامس : واختاره غير واحد أنه حال منها لأنها معرفة بالإضافة ، وبعضهم يجوز كونه حالاً من الأولى أيضاً لتخصصها بالوصف بالمتخصص بالإضافة فتكون الأوجه ستة ، وقوله تعالى : { مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } متعلق بجاءتهم ، والضمير المضاف إليه لعاد وثمود ، والجهتان كناية عن جميع الجهات على ما عرف في مثله أي أتتهم الرسل من جمع جهاتهم ، والمراد بإتيانهم من جميع الجهات بذل الوسع في دعوتهم على طريق الكناية ويجوز أن يراد بما بين أيديهم الزمن الماضي وبما خلفهم المستقبل وبالعكس واستعير فيه ظرف المكان للزمان والمراد جاؤهم بالإنذار عما جرى على أمثالهم الكفرة في الماضي وبالتحذير عما سيحيق بهم في الآخرة .
وروى هذا عن الحسن ، وجوز كون الضمير المضاف إليه للرسل والمراد جاءتهم الرسل المتقدمون والمتأخرون على تنزيل مجيء كلامهم ودعوتهم إلى الحق منزلة مجيء أنفسهم فإن هوداً . وصالحاً كانا داعيين لهم إلى الايمان بهما وبجميع الرسل ممن جاء من بين أيديهم وممن يجيء من خلفهم فكأن الرسل قد جاؤهم وخاطبوهم بقوله تعالى : { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله } وروى هذا الوجه عن ابن عباس . والضحاك ، وإليه ذهب الفراء . ونص بعض الأجلة على أن { مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } عليه حال من الرسل لا متعلق بجاءتهم ، وجمع الرسل عليه ظاهر ، وقيل : يحتمل أن يكون كون الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم كناية عن الكثرة كقوله تعالى : { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ } [ النحل : 112 ] وقال الطبري : الضمير في قوله تعالى : { مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } لعاد . وثمود وفي قوله تعالى : { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } للرسل وتعقبه في «البحر » بأن فيه خروجاً عن الظاهر في تفريق الضمائر وتعمية المعنى إذ يصير التقدير جاءتهم الرسل من بين أيديهم وجاءتهم من خلف الرسل أي من خلف أنفسهم ، وهذا معنى لا يتعقل إلا أن كان الضمير عائداً في { مّنْ خَلْفِهِمْ } على الرسل لفظاً وهو عائد على رسل آخرين معنى فكأنه قيل : جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلف رسل آخرين فيكون كقولهم : عندي درهم ونصفه أي ونصف درهم آخر ، وبعده لا يخفى .
وخص بالذكر من الأمم المهلكة عاد وثمود لعلم قريش بحالهما ولوقوفهم على بلادهم في اليمن والحجر ، و { أن } يصح أن تكون مفسرة لمجيء الرسل لأنه بالوحي وبالشرائع فيتضمن معنى القول و { لا } ناهية وأن تكون مصدرية ولا ناهية أيضاً ، والمصدرية قد توصل بالنهي كما توصل بالأمر على كلام فيه ، وجعل الحوفي { لا } نافية و { أن } ناصبة للفعل ، وقيل : إنها المخففة من الثقيلة ومعها ضمير شأن محذوف ، وأورد عليها أنها إنما تقع بعد أفعال اليقين وإن خبر باب أن لا يكون طلباً إلا بتأويل ، وقد يدفع بأنه بتقدير القول وإن مجيء الرسل كالوحي معنى فيكون مثله في وقوع أن بعده لتضمنه ما يفيد اليقين كما أشار إليه الرضى وغيره ، ولا يخفى ما فيه من التكلف المستغني عنه ؛ وعلى احتمال كونا مصدرية وكونها مخففة يكون الكلام بتقدير حرف الجر أي بأن لا تعبدوا إلا الله { قَالُواْ لَوْ شَاء رَبُّنَا } مفعول المشيئة محذوف وقدره الزمخشري إرسال الرسل أي لو شاء ربنا إرسال الرسل { لأنزل ملائكة } أي لأرسلهم لكن لما كان إرسالهم بطريق الإنذار قيل : لأنزل ، قيل : ولم يقدر إنزال الملائكة بناء على أن الشائع تقدير مفعول المشيئة بعد لو الشرطية من مضمون الشرط لأنه عار عن إفادة ما أرادوه من نفي إرساله تعالى البشر والشائع غير مطرد ، وقال أبو حيان . إنما التقدير لو شاء ربنا إنزال ملائكة بالرسالة منه إلى الإنس لأنزلهم بها إليهم ، وهذا أبلغ في الامتناع من إرسال البشر إذ علقوا ذلك بإنزال الملائكة وهو سبحانه لم يشأ ذلك فكيف يشاؤه في البشر وهو وجه حسن .
{ فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أي بالذي أرسلتم به على زعمكم ، وفيه ضرب تهكم بهم { كافرون } لما أنكم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا ، والفاء فاء النتيجة السببية فيكون في الكلام إيماء إلى قياس استثنائي أي لكنه لم ينزل ، ويجوز أن تكون تعليلية لشرطيتهم أي إنما قلنا ذلك لأنا منكرون لما أرسلتم به كما ننكر رسالتكم ، و { مَا } كما أشرنا إليه موصولة ، وكونها مصدرية وضمير { بِهِ } لقولهم : { لا إله إِلاَّ الله } خلاف الظاهر ، أخرج البيهقي في «الدلائل » . وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : قال أبو جهل والملأ من قريش قد التبس علينا أمر محمد صلى الله عليه وسلم فلو التمستم رجلاً عالماً بالسحر والكهانة والشعر فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره ، فقال عتبة بن ربيعة : والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علماً وما يخفى عليّ إن كان كذلك فأتاه فقال له يا محمد أنت خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب ؟ فلم يجبه قال : فبم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك ، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك ، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم فلما فرغ قال عليه الصلاة والسلام : بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا فقرأ حتى بلغ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وصمود فأمسك عتبة على فيه عليه الصلاة والسلام فأنشده الرحم أن يكف عنه ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فلما احتبس عنهم قال أبو جهل : يا معشر قريش ما أرى عقبة إلا قد صبا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة إصابته انتقلوا بنا إليه فأتوه فقال أبو جهل : والله يا عتبة ما حسبنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره فإن كنت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن محمد صلى الله عليه وسلم فغضب وأقسم باللهم تعالى لا يكلم محمدا عليه الصلاة والسلام أبدا وقال : لقد علمتم أني أكثر قريش مالا ولكني أتيته فقص عليهم القصة فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة قرأ بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا حتى أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسكت بفيه وناشدته الرحم فكف وقد علمتم أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب .
حيث { جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أي : يتبع بعضهم بعضا متوالين ، ودعوتهم جميعا واحدة . { أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ } أي : يأمرونهم بالإخلاص للّه ، وينهونهم عن الشرك ، فردوا رسالتهم وكذبوهم ، { قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً } أي : وأما أنتم فبشر مثلنا { فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } وهذه الشبهة لم تزل متوارثة بين المكذبين ، من الأمم{[772]} وهي من أوهى الشُّبَهِ ، فإنه ليس من شرط الإرسال ، أن يكون المرسل مَلَكًا ، وإنما شرط الرسالة ، أن يأتي الرسول بما يدل على صدقه ، فَلْيَقْدَحُوا ، إن استطاعوا بصدقهم ، بقادح عقلي أو شرعي ، ولن يستطيعوا إلى ذلك سبيلا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم} يعني من قبلهم ومن بعدهم.
فقالوا لقومهم: {ألا تعبدوا إلا الله} يقول: وحدوا الله.
{قالوا} للرسل: {لو شاء ربنا لأنزل ملائكة} فكانوا إلينا رسلا.
{فإنا بما أرسلتم به} يعني بالتوحيد.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"إذْ جاءَتُهُمْ الرّسُلُ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ" يقول: فقل: أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود التي أهلكتهم، إذ جاءت عادا وثمود الرسل من بين أيديهم. وعنى بقوله: "مِنْ بَينِ أيْدِيهِمْ "الرسل التي أتت آباء الذين هلكوا بالصاعقة من هاتين الأمتين.
وعنى بقوله: "وَمِنْ خَلْفِهِمْ": من خلف الرسل الذين بعثوا إلى آبائهم رسلاً إليهم، وذلك أن الله بعث إلى عاد هودا، فكذّبوه من بعد رسل قد كانت تقدمته إلى آبائهم أيضا، فكذّبوهم، فأهلكوا...
وقوله: "ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ اللّهَ" يقول تعالى ذكره: جاءتهم الرسل بأن لا تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له.
قالوا: "لَوْ شاءَ رَبّنا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً" يقول جلّ ثناؤه: فقالوا لرسلهم إذ دعوهم إلى الإقرار بتوحيد الله: لو شاء ربنا أن نوحده، ولا نعبد من دونه شيئا غيره، لأنزل إلينا ملائكة من السماء رسلاً بما تدعوننا أنتم إليه، ولم يرسلكم وأنتم بشر مثلنا، ولكنه رضى عبادتنا ما نعبد، فلذلك لم يرسل إلينا بالنهي عن ذلك ملائكة.
وقوله: "فإنّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ" يقول: قالوا لرسلهم: فإنا بالذي أرسلكم به ربكم إلينا جاحدون غير مصدّقين به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} هذا يحتمل وجوها:
أحدها: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ} بنبإ من كان قبلهم ونبإ من كان بعدهم أنهم جميعا قالوا لقومهم: {ألا تعبدوا إلا الله}.
والثاني: {إذ جاءتهم الرسل} بالوعيد والتخويف بعذاب ينزل بهم {من بين أيديهم} أي من حيث يرونه، ويعلمونه {ومن خلفهم} أي من حيث لا يرونه، ولا يعلمونه. وهو كقوله عز وجل: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف: 97 و 98} ونحوه.
{قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} هذا القول منهم يناقض قولهم وتكذيبهم الرسل وإنكارهم رسالة البشر وطمعهم رسالة الملائكة لوجهين: أحدهما: لأنهم ما عرفوا الملائكة، ولا عاينوهم. فإنما عرفوا الملائكة وعلموا بمكانهم برسل البشر، فكيف أنكروا رسالتهم مع ما لو كان الرسل إليهم الملائكة، لم يعرفوا أنهم ملائكة إلا بقولهم.
والثاني: ما قالوا: {فإنا بما أرسلتم به كافرون} قد أقرّوا رسالتهم حين قالوا: {فإنا بما أرسلتم به كافرون}؛ لأنهم لم يقولوا: إنا بما جئتم به إلينا كافرون، ولكن قالوا: {فإنا بما أرسلتم به كافرون}، أعني قولهم: {قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة} تعنّتا وعنادا، وإلا قد علموا أنهم رسل الله، فيناقضون بذلك ما قالوا على التعنّت منهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أي: أتوهم من كل جانب، واجتهدوا بهم وأعملوا فيهم كل حيلة، فلم يروا منهم إلاّ العتوّ والإعراض، كما حكى الله تعالى عن الشيطان: {لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [الأعراف: 17].
فإن قلت: الرسل الذين من قبلهم ومن بعدهم كيف يوصفون بأنهم جاءوهم، وكيف يخاطبونهم بقولهم: (إنا بما أرسلتم به كافرون)؟ قلت: قد جاءهم هود وصالح داعيين إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل ممن جاء من بين أيديهم، أي: من قبلهم وممن يجيء من خلفهم، أي: من بعدهم فكأن الرسل جميعاً قد جاؤوهم.
أن في {أَلاَّ تَعْبُدُواْ} بمعنى أي، أو مخففة من الثقيلة، أصله: بأنه لا تعبدوا، أي: بأنّ الشأن والحديث قولنا لكم: لا تعبدوا، ومفعول شاء محذوف أي: {لَوْ شَاء رَبُّنَا} إرسال الرسل.
{لأَنزَلَ ملائكة فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون}: فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة، فإنا لا نؤمن بكم وبما جئتم به، وقولهم: {أُرْسِلْتُمْ بِهِ} ليس بإقرار بالإرسال، وإنما هو على كلام الرسل، وفيه تهكم، كما قال فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27]...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
علل إيقاع ذلك بهم بقوله: {إذا} ويجوز أن يكون ظرفاً لصاعقة، وظرفيته لا تنافي عليته أي حين {جاءتهم الرسل}؛ لأن الزمان الطويل يجوز نسبة ما وقع في جزء منه إليه، ولما كانت الرسل إنما أتت بالفعل في بعض الزمان أدخل الجار فقال: {من بين أيديهم} أي من قبلهم لأن النذير الأول نذير لكل من أتى بعده بأنه إن واقع ما واقعه أتاه ما عذب به.
{ومن خلفهم} وهم من أتى إليهم؛ لأنهم لم يكونوا يعلمون إتيانهم، فالخلف كناية عن الخفاء، والقدام عن الجلاء، ولا شك أن الإنسان لما انقاد له من قبله فسمعه منه أقبل مما رآه بعينه؛ لأن النفس لا تنقاد لما خالفها إلا بعد جدال وجهاد، فإذا تطاول الزمن وانقاد له الغير، سهل عليها الأمر وخف عليها الخطب، وأيضاً الآتي إلى ناس إنما يأتيهم بعد وجودهم وبلوغهم حد التكليف، فهو بهذا آتٍ إليهم من ورائهم أي بعد وجودهم أو يكون ما بين الأيدي هو من جاءهم؛ لأنهم علموا بمجيئه علم من ينظر من قدامه، وما خلفهم ما غاب عنهم ممن تقدمهم، فلم تنقل إليهم أخبارهم إلا على وجوه تحتمل الطعن، ثم بين أن مجيء الرسل ينفي عبادة غير الله وقصر العبادة عليه، فقال مظهراً مع العبادة الاسم الذي هو أولى بها: {أن} أي بأن قولوا لهم {لا تعبدوا إلا الله} أي الذي له جميع صفات الكمال.
ولما كان هذا موضعاً لتشوف السامع إلى خبرهم عند ذلك إجابة بقولهم: {قالوا} أي كل منهم: {لو شاء ربنا} أي الذي ربانا أحسن تربية وجعلنا من خواصه بما حبانا به من النعم أن يرسل إلينا رسولا {ملائكة} فأرسلهم إلينا بما يريده منا لكنه لم ينزل ملائكة فلم يشأ أن يرسل رسولاً، فتسبب عما قالوه من القياس الاستثنائي الذي استنتجوا فيه من نقيض تاليه نقيض مقدمه، لما جعلوا بين المقدم والتالي من الملازمة بزعمهم قولهم: {فإنا بما} أي بسبب الذي.
ولما كانوا لم ينكروا مطلق رسالتهم، إنما أنكروا كونها من الله، بنوا للمجهول قولهم مغلباً تعالى في الترجمة عنهم للخطاب على الغيبة؛ لأنه أدخل في بيان قلة أدبهم: {أرسلتم} أي أيها الرسل ومن كان على مثل حالهم من البشر.
{به} أي على ما تزعمون خاصة لا بغير ما أرسلتم به مما أنزل به ملائكة مثلاً {كافرون} لأن قياسنا قد دل على أنه تعالى لم يشأ الإرسال، فأنتم لستم بمرسل عنه لأنكم بشر لا ملائكة وقد كذبوا في قياسهم الذي لم يأخذوه عن عقل ولا نقل لأنه لا ملازمة بين مشيئة الإرسال إلى الناس كافة أو إلى أمة منهم وبين أن يكون المرسل إليهم كلهم ملائكة.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
حيث {جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أي: يتبع بعضهم بعضا متوالين، ودعوتهم جميعا واحدة. {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} أي: يأمرونهم بالإخلاص للّه، وينهونهم عن الشرك، فردوا رسالتهم وكذبوهم، {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} أي: وأما أنتم فبشر مثلنا {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} وهذه الشبهة لم تزل متوارثة بين المكذبين، من الأمم وهي من أوهى الشُّبَهِ، فإنه ليس من شرط الإرسال، أن يكون المرسل مَلَكًا، وإنما شرط الرسالة، أن يأتي الرسول بما يدل على صدقه، فَلْيَقْدَحُوا، إن استطاعوا بصدقهم، بقادح عقلي أو شرعي، ولن يستطيعوا إلى ذلك سبيلا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ضمير {جاءتهم} عائد إلى عاد وثمود باعتبار عدد كل قبيلة منهما.
وجَمْع الرسل هنا من باب إطلاق صيغة الجمع على الاثنين مثل قوله تعالى: {فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4]، والقرينة واضحة وهو استعمالٌ غير عزيز، وإنما جاءهم رسولان هود وصالح.
{مِن بين أيْدِيهم ومِن خَلْفِهِم} تمثيل لحرص رسول كل منهم على هداهم بحيث لا يترك وسيلة يَتوسل بها إلى إبلاغهم الدين إلا توسل بها. فمُثِّل ذلك بالمجيء إلى كل منهم تارة من أمامه وتارة من خلفه لا يترك له جهة، كما يفعل الحريص على تحصيل أمرٍ أَن يتطلبه ويعيد تطلبه ويستوعب مظانّ وجوده أو مظانّ سماعه، وهذا التمثيل نظير الذي في قوله تعالى حكاية عن الشيطان {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} [الأعراف: 17]. وإنما اقتصر في هذه الآية على جهتين ولم تُستوعب الجهات الأربع كما مُثل حال الشيطان في وسوسته لأن المقصود هنا تمثيل الحرص فقط وقد حصل، والمقصود في الحكاية عن الشيطان تمثيل الحرص مع التلهف تحذيراً منه وإثارة لبُغضه في نفوس الناس.
{أَلاَّ تعبدوا إلا الله} تفسير لِجملة {جَآءَتهُمُ الرُّسُلُ} لتضمن المجيء معنى الإبلاغ بقرينة كون فاعل المجيء متصفاً بأنهم رسُل، فتكون (أَنْ) تفسيرية ل {جاءتهم} بهذا.
{قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأنزَلَ ملائكة فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون}
حكاية جواب عاد وثمود لرسولَيْهم فقد كان جواباً متماثلاً لأنه ناشئ عن تفكير متماثل وهو أن تفكير الأذهان القاصرة من شأنه أن يبنَى على تصورات وهمية وأقيسة تخييلية وسفسطائية، فإنهم يتصورون صفات الله تعالى وَأفعاله على غير كنهها ويقيسونها على أحوال المخلوقات، ولذلك يتماثل في هذا حالُ أهل الجهالة كما قال تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون} [الذاريات: 52، 53]، أي بل هم متماثلون في الطغيان، أي الكفر الشديد فتملي عليهم أوهامهم قضايا متماثلة.
ومفعول {شاء} محذوف دل عليه السياق، أي لو شاء ربنا أن يرسل إلينا لأنزل ملائكة من السماء مرسَلين إلينا، وهذا حذف خاص هو غير حذف مفعول فعل المشيئة الشائع في الكلام لأن ذلك فيما إذا كان المحذوف مدلولاً عليه بجواب {لوْ} كقوله تعالى: {فلو شاء لهداكم أجمعين} [الأنعام: 149]، ونكتته الإِبهام ثم البيان، وأما الحذف في الآية فهو للاعتماد على قرينة السياق والإيجاز وهو حذف عزيز لمفعول فعل المشيئة.