البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِذۡ جَآءَتۡهُمُ ٱلرُّسُلُ مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّا ٱللَّهَۖ قَالُواْ لَوۡ شَآءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَـٰٓئِكَةٗ فَإِنَّا بِمَآ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ كَٰفِرُونَ} (14)

{ من بين أيديهم ومن خلفهم } ، قال ابن عباس : أي قبلهم وبعدهم ، أي قبل هود وصالح وبعدهما .

وقيل : من أرسل إلى آبائهم ومن أرسل إليهم ؛ فيكون { من بين أيديهم } معناه : من قبلهم ، { ومن خلفهم } معناه : الرسل الذين بحضرتهم .

فالضمير في من خلقهم عائد على الرسل ، قاله الضحاك ، وتبعه الفراء ، وسيأتي عن الطبري نحو من هذا القول .

وقال ابن عطية : { من بين أيديهم } : أي تقدموا في الزمن واتصلت نذارتهم إلى أعمار عاد وثمود ، وبهذا الاتصال قامت الحجة .

{ ومن خلفهم } : أي جاءهم رسول بعد تقدم وجودهم في الزمن ، وجاء من مجموع العبارة إقامة الحجة عليهم في أن الرسالة والنذارة عمتهم خبر ومباشرة .

انتهى ، وهو شرح كلام ابن عباس .

وقال الزمخشري : { من بين أيديهم ومن خلفهم } : أي آتوهم من كل جانب ، واجتهدوا بهم وأعملوا فيهم كل حيلة ، فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض .

كما حكى الله عن الشيطان : { لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم } أي لآتينهم من كل جهة ، ولأعملن فيهم كل حيلة .

وعن الحسن : أنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة ، لأنهم إذا حذروهم ذلك فقد جاؤوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي وما جرى فيه على الكفار ، ومن جهة المستقبل وما سيجري عليهم . انتهى .

وقال الطبري : الضمير في قوله : { ومن خلفهم } عائد على الرسل ، وفي : { من بين أيديهم } عائد على الأمم ، وفيه خروج عن الظاهر في تفريق الضمائر وتعمية المعنى ، إذ يصير التقدير : جاءتهم الرسل من بين أيديهم وجاءتهم من خلف الرسل ، أي من خلف أنفسهم ، وهذا معنى لا يتعقل إلا إن كان الضمير يعود في خلفهم على الرسل لفظاً ، وهو يعود على رسل أخرى معنى ، فكأنه قال : جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلف رسل آخرين ، فيكون كقولهم : عندي درهم ونصفه ، أي ونصف درهم آخر ، وهذا فيه بعد .

وخص بالذكر من الأمم المهلكة عاد وثمود لعلم قريش بحالهما ، ولوقوعهم على بلادهم في اليمن وفي الحجر ، وقال الأفوه الأودي :

أضحوا كقيل بن عنز في عشيرته *** إذ أهلكت بالذي سدى لها عاد

أو بعده كقدار حين تابعه *** على الغواية أقوام فقد بادوا

{ أن لا تعبدوا } : يصح أن تكون أن تفسيرية ، لأن مجيء الرسل إليهم يتضمن معنى القول ، أي جاءتهم مخاطبة ؛ وأن تكون مخففة من الثقيلة ، أي بأنه لا تعبدوا ، والناصبة للمضارع ، ووصلت بالنهي كما توصل بإلا ، وفي نحو : { أن طهر } وكتبت إليه بأن قم ، ولا في هذه إلا وجه للنهي .

ويجوز على بعد أن تكون لا نافية ، وأن ناصبة للفعل ، وقاله الحوفي ولم يذكر غيره .

ومفعول شاء محذوف ، وقدره الزمخشري : لو شاء ربنا إرسال الرسل لأنزل ملائكة . انتهى .

وتتبعت ما جاء في القرآن وكلام العرب من هذا التركيب فوجدته لا يكون محذوفاً إلا من جنس الجواب ، نحو قوله تعالى : { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } أي لو شاء جمعهم على الهدى لجمعهم عليه ، وكذلك : { لو نشاء لجعناه حطاماً } { لو نشاء جعلناه أجاجاً } { ولو شاء ربك لآمن } { ولو شاء ربك ما فعلوه } { لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء } قال الشاعر :

فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد *** ولو شاء ربي كنت عمر بن مرثد

وقال الراجز :

واللذ لو شاء لكنت صخراً *** أو جبلاً أشم مشمخرا

فعلى هذا الذي تقرر ، لا يكون تقدير المحذوف ما قاله الزمخشري ، وإنما التقدير : لو شاء ربنا إنزال ملائكة بالرسالة منه إلى الإنس لأنزلهم بها إليهم ، وهذا أبلغ في الامتناع من إرسال البشر ، إذ علقوا ذلك بأقوال الملائكة ، وهو لم يشأ ذلك ، فكيف يشاء ذلك في البشر ؟ { فإنا بما أرسلتم به كافرون } : خطاب لهود وصالح ومن دعا من الأنبياء إلى الإيمان ، وغلب الخطاب على الغيبة ، نحو قولك : أنت وزيد تقومان .

وما مصدرية ، أي بإرسالكم ، وبه توكيد لذلك .

ويجوز أن يكون ما بمعنى الذي ، والضمير في به عائد عليه ، وإذا كفروا بما تضمنه الإرسال ، كان كفراً بالإرسال .

وليس قوله : { بما أرسلتم } إقراراً بالإرسال ، بل هو على سبيل التهكم ، أي بما أرسلتم على زعمكم ، كما قال فرعون : { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون }