اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِذۡ جَآءَتۡهُمُ ٱلرُّسُلُ مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّا ٱللَّهَۖ قَالُواْ لَوۡ شَآءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَـٰٓئِكَةٗ فَإِنَّا بِمَآ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ كَٰفِرُونَ} (14)

قوله : «إذْ جَاءَتْهُم » فيه أوجه :

أحدها : أنه ظرف «لأنْذَرْتُكُم » ، نحو : لقيتك إذ كان كذا{[48636]} .

الثاني : أنه منصوب بصاعقه ، لأنها بمعنى العذاب{[48637]} ، أي أنذرتكم العذاب الواقع في وقت مجيء رُسُلهم{[48638]} .

الثالث : أنه صفة لصاعقة الأولى .

الرابع : أنه حال من «صاعقة » الثانية ، قالهما أبو البقاء{[48639]} . وفيه{[48640]} نظر إذ الظَّاهِرُ أنَّ الصَّاعِقَة جُثَّةٌ وهي قطعة نار تنزل من السماء فتحرق كما تقدم تفسيرها ، ولا يقع الزمان صفة لها ، ولا حالاً عنها ، وتأويلها بمعنى العذاب إخراجٌ لها عن مدلولها من غير ضرورةٍ ، وإنما جعلها وصفاً للأولى ، لأنها نكرة ، وحالاً من الثانية معرفة لإضافتها إلى علم ، ولو جعلها حالاً من الأولى لأنها تخصصت بالإضافة لجاز . فتعودُ الأوجهُ خمسةً .

قوله : { مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } الظاهر أن الضَّميرين عائدان على عاد وثمود{[48641]} . وقيل : الضمير في «خَلْفِهِمْ » يعودُ{[48642]} على الرسل واستُبعد هذا من حيث المعنى ؛ إذ يصير التقدير : جاءتهم الرسل من خلف الرسل أي من خلف أنفسهم ، وقد يجاب عنه بأنه من باب : دِرْهَمٌ ونصفُهُ ، أي ومن خلف رسُلٍ آخرين{[48643]} .

قوله : { أَلاَّ تعبدوا } يجوز في «أن » ثلاثةُ أوجه :

أحدها : أن تكون المخففة من{[48644]} الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوفٌ ، الجملة النهيية بعدها خبر ، كذا أعربه أبو حيان وفيه نظر من وجهين :

أحدهما : أنَّ المخففة ( من الثقيلة ) لا يقع بعدها فعلٌ إلا من أفعال اليقين .

والثاني : أن الخبر في باب إنَّ وأخواتها لا يكون طلباً ، فإن ورد منه شيء أوِّلَ ، ولذلك تأَوَّلُوا :

4356 إنَّ الَّذِينَ قَتَلْتُمْ أَمْسِ{[48645]} سَيِّدَهُمْ *** لاَ تَحْسَبُوا لَيْلَهُمْ عَنْ لَيْلِكُمْ نَامَا{[48646]}

وقوله :

4357 وَلَوْ أَصَابَتْ لَقَالَتْ وَهي صَادِقَةٌ *** إنَّ الرِّيَاضَةَ لاَ تُنْصِبْكَ لِلشِّيبِ{[48647]}

على إضمار القول .

الثاني : أنها الناصبة للمضارع ، والجملة النهيية بعدها صلتها وصلت بالنهي كما توصل بالأمر في كتبتُ إليه بأن قُم{[48648]} .

وقد مر في وصلها بالأمر إشكالٌ يأتي مثله في النهي .

الثالث : أن تكون مفسرة لمجيئهم{[48649]} ؛ لأنه يتضمن قولاً ، و«لا » في هذه الأوجه كلها ناهية ، ويجوز أن تكون نافية على الوجه الثاني ، ويكون الفعل منصوباً بأن بعد لا النافية ، فإنَّ لا النافية لا تمنع العامل أن يعمل فيما بعدها ، نحو : جئتُ بلا زيدٍ ، ولم يذكر الحوفيُّ غيره{[48650]} .

قوله : «لَوْ شَاءَ » قدَّر الزمخشري مفعول شاء لو شاء إرسالَ الرُّسل لأنْزَلَ ملائكةً{[48651]} قال أبو حيان تتبعت القرآن وكلام العرب ، فلم أجد حذف مفعول شاء الواقع بعد لو إلاَّ من جنس جوابها ، نحو { وَلَوْ شَاءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى } [ الأنعام : 35 ] أي لو شاء ( الله ) جمعهم على الهدى لجمعهم عليه . ( و{[48652]} ) { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } [ الواقعة : 65 ] و{ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } [ الواقعة : 70 ] و{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ } [ يونس : 99 ] و{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } [ الأنعام : 112 ] و{ لَوْ شَاءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ } [ النحل : 35 ] ، وقال الشاعر ( رحمة الله عليه{[48653]} ) :

4358 فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتَ قَيْسَ بْنَ خَالِدٍ *** وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتَ عَمْرو بْنَ مَرْثَدِ{[48654]}

وقال الآخر :

4359 واللَّذِ لَوْ شَاءَ لَكُنْت صَخْراً *** أَوْ جَبَلاً أَشَمَّ مُشْمَخرًّا{[48655]}

قال : فعلى ما تقدم لا يكون المحذوف ما قدره الزمخشري ، وإنما التقدير : لو شاء ربنا إنزال ملائكةٍ بالرسالة منه إلى الإنس لأَنزلهُم بها إليهم وهذا أبلغ في{[48656]} الامتناع من إرسال البشر إذ علَّقُوا ذلك بإنزال الملائكة وهو لم يشأ ذلك فكيف يشاءُ ذلك في البشر{[48657]} .

قال شهاب الدين : وتقدير أبي القاسم أوقع معنًى وأخلصُ من إيقاع الظاهر موقع المضمر ؛ إذ يصير التقدير «لو شاء إنزال ملائكةٍ لأنزلَ ملائكة »{[48658]} .

قوله : { بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } هذا خطاب لهودٍ وصالح وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وغلب المخاطب على الغائب نحو : أَنتَ وَزَيْدٌ تقومانِ . و«ما » يجوز أن تكون موصولة بمعنى «الذي » ، وعائدها «به » ، وأن تكون مصدرية ، أي بإرسالكم فعلى هذا يكون «به » يعود على ذلك المصدر المؤول ، ويكون من باب التأكيد ، كأنه قيل : كافرون بإِرسالكم به{[48659]} .

فصل

معنى جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ، أي إن الرسل المبعوثين إليهم أتوهُم من كل جانب ، وأتوا بجميع وجوه الدلالات ، فلم يروا منهم إلا العُتُوَّ والإعراض ، كما حكى الله تعالى عن الشيطان : { لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } [ الأعراف : 17 ] أي من كل جهة . وقيل : المعنى أن الرسل جاءتهم من قبلهم أي أرسلوا إلى آبائهم ، ومن خلفهم يعني الذين أرسلوا إليهم .

فإن قيل : كيف يمكن وصفهم بأنهم جاءوا ؟ ! .

فالجواب : قد جاءهم هودٌ وصالح داعيين إلى الإيمان بهما ، وبجميع الرسل ، وبهذا التقدير : فكأن جميع الرسل قد جاءوهم وأمروهم بالتوحيد ونفي الشرك ، فقالوا : { لو شاء ربّنا لأنزل ملائكة } وجعلوا عدم إنزال الملائكة دليلاً على تكذيب الرسل ، والمعنى أنه تعالى لو شاء إرسال الرسل إلى البشر لجعل رسله ملائكةً ؛ لأن الملائكة أفضى إلى المقصود من بعثةِ البشر .

ثم قالوا إنا بما أُرْسلتُم به كافرون ، وتقدم الجواب عن هذه الشُّبهة في سورة الأنعام .

واعلم أن قولهم : أرسلتم به ، ليس إقراراً بأن أولئك الأنبياء رسلٌ وإنما ذكروه حكاية الكلام الرسل أو على سبيل الاستهزاء ، كما قال فرعون : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] .

فصل

روي أن أبا جهل لعنه الله مقال في ملأ من قريش : التبس علينا أمرُ محمد ، فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر و السحر والكهانةِ وكلَّمَهُ ثم أتانا من أمره ، فقال عُيينةُ بْنُ حصن : والله لقد علمتُ الشعر والسحر والكهانة ، وعلمُ من ذلك علماً ولا يخفى عليَّ ، فأتاه ، فقال يا محمدُ : أنت خيرٌ أم هاشم ؟ أتت خير أم عبد المطلب ؟ أتت خبر أم عبد الله ؟ فَلِمَ تَشْتِمُ آلهتنا وتضلِّلُ آباءنا ؟ فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواءَ فكنت رئيسنا ، وإن أردت الباءة زوَّجناك أَعزَّ نسوة تختارُوهُنَّ من أيِ بنات قريش شئت ، وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستعين به على ذلك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت ، فلما فرغ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أَفرغت ؟ قال : نعم . قال : فاسمع ثم إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تَعَوَّذَ ثم قرأ : «بسم الله الرحمن الرحيم » حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً إلى أن بلغ قوله : فإن أَعْرَََضُوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسك عُيينةُ على فِيهِ وناشدهُ بالرحم إلا ما سكت ، ثم رجع إلى أهله ، فلم يخرج إلى قريش ، فلما احتبس عنهم قالوا : ما نرى عيينة إلا قد صَبَأ فانطلقوا إليه وقالوا : يا عيينة ، ما حَبَسَكَ عنا ، إلا أنك قد صبأت إلى محمد ، وأعجبك طعامُه ، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد ، فغضب وأقسم لا يكلم محمداً أبداً ، ثم قال : «واللهُ لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً ، ولكني قصصت عليه القصة فأجابني بشيء والله ما هو بشعرٍ ولا كهانةٍ ولا سحر ، وقرأ السورة ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه ، وناشدته بالرحم حتى سكت ، لقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخِفت أن ينزل العذاب .


[48636]:التبيان 1124.
[48637]:البحر المحيط 7/489.
[48638]:في ب رسله.
[48639]:التبيان المرجع السابق.
[48640]:الدر المصون 4/723.
[48641]:نقله الزمخشري في الكشاف 3/447 والبغوي 6/106.
[48642]:نقله أبو زكريا الفراء في معاني القرآن 3/13.
[48643]:قال بهذا الاعتراض والجواب أبو حيان في البحر المحيط 7/488، ونقله عنه تلميذه الشهاب السمين في الدر المصون 4/723، 724.
[48644]:أحد قولي الزمخشري في الكشاف 3/448 وأحد أقوال البحر المحيط لأبي حيان أيضا 7/489.
[48645]:في ب بالأمس.
[48646]:من البسيط لأبي مكعت. وشاهده: "لا تحسبوا" جملة نهيية طلبية مؤولة بالخبر، حيث هي واقعة خبرا لإن المخففة من الثقيلة على إضمار القول. وقد تقدم.
[48647]:من البسيط كسابقه وهو للجميع بن منقذ، وشاهده: "لا تنصبك" فهذه جملة طلبية ليست خبرا لإن ولكنها مدخول عليها بقول مضمر هو الخبر وقد تقدم.
[48648]:هو أحد أقوال أبي حيان فيه انظر البحر 7/489 وعلى هذا فهي مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بحرف جر محذوف والتقدير: بعدم عبادتهم.
[48649]:الكشاف 3/448 والبحر المحيط 7/489.
[48650]:المرجع الأخير السابق.
[48651]:الكشاف المرجع السابق.
[48652]:زيادة للسياق.
[48653]:زيادة من أ.
[48654]:من الطويل لطرفة بن العبد ويروى صدره: أرى كل ذي جد ينوء بجده ............................ والشاهد: أن مفعول شاء الواقع بعد لو مقدر من جنس جوابها كما قرر بذلك أبو حيان والتقدير: فلو شاء ربي كوني.................كنت وانظر ديوان طرفة 36 والسبع الطوال 209 و210، والبحر المحيط 7/490، والدر المصون 4/725.
[48655]:من الرجز وهو مجهول ويروى: والذ لو شاء لكانت برا وكانت أي الدنيا، والبر مقابل البحر، والأشم المرتفع، والمشمخر: العالي المتطاول. وشاهده: أن جواب لو مقدر من جنس الجواب تقديره: لو شاء كوني وقد تقدم ويستشهد النحاة بالبيت على حذف ياء الذي تخفيفا وكسر ما قبلها لغة لبعض العرب.
[48656]:في ب من.
[48657]:البحر المحيط 7/490.
[48658]:الدر المصون 4/725.
[48659]:المرجعان السابقان.