مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِذۡ جَآءَتۡهُمُ ٱلرُّسُلُ مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّا ٱللَّهَۖ قَالُواْ لَوۡ شَآءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَـٰٓئِكَةٗ فَإِنَّا بِمَآ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ كَٰفِرُونَ} (14)

ثم قال : { إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم } وفيه وجهان ( الأول ) المعنى أن الرسل المبعوثين إليهم أتوهم من كل جانب واجتهدوا بهم وأتوا بجميع وجوه الحيل فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض ، كما حكى الله تعالى عن الشيطان قوله { ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم } يعني { لآتينهم } من كل جهة ولأعملن فيهم كل حيلة ، ويقول الرجل : استدرت بفلان من كل جانب فلم تؤثر حيلتي فيه .

السؤال الثاني : المعنى : أن الرسل جاءتهم من قبلهم ومن بعدهم ، فإن قيل : الرسل الذين جاؤوا من قبلهم ومن بعدهم ، كيف يمكن وصفهم بأنهم جاؤوهم ؟ قلنا : قد جاءهم هود وصالح داعيين إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل ، وبهذا التقدير فكأن جميع الرسل قد جاؤوهم .

ثم قال : { ألا تعبدوا إلا الله } يعني أن الرسل الذين جاؤوهم من بين أيديهم ومن خلفهم أمروهم بالتوحيد ونفي الشرك ، قال صاحب «الكشاف » أن في قوله { ألا تعبدوا إلا الله } بمعنى أي أو مخففة من الثقيلة أصله بأنه لا { تعبدوا } أي بأن الشأن والحديث قولنا لكم لا تعبدوا إلا الله .

ثم حكى الله تعالى عن أولئك الكفار أنهم قالوا { لو شاء ربنا لأنزل ملائكة } يعني أنهم كذبوا أولئك الرسل ، وقالوا الدليل على كونكم كاذبين أنه تعالى لو شاء إرسال الرسالة إلى البشر لجعل رسله من زمرة الملائكة ، لأن إرسال الملائكة إلى الخلق أفضى إلى المقصود من البعثة والرسالة ، ولما ذكروا هذه الشبهة قالوا { فإنا بما أرسلتم به كافرون } معناه : فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة ، فأنتم لستم برسل ، وإذا لم تكونوا من الرسل لم يلزمنا قبول قولكم ، وهو المراد من قوله { فإنا بما أرسلتم به كافرون } .

واعلم أنا بالغنا في الجواب عن هذه الشبهات في سورة الأنعام ، وقوله { أرسلتم به } ليس بإقرار منهم بكون أولئك الأنبياء رسلا ، وإنما ذكروه حكاية لكلام الرسل أو على سبيل الاستهزاء ، كما قال فرعون { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } . روي أن أبا جهل قال في ملأ من قريش : التبس علينا أمر محمد ، فلو التمستم لنا رجلا عالما بالشعر والسحر والكهانة فكلمه ، ثم أتانا ببيان عن أمره ، فقال عتبة بن ربيعة والله لقد سمعت الشعر والسحر والكهانة وعلمت من ذلك علما وما يخفى علي ، فأتاه فقال : يا محمد أنت خير أم هاشم ؟ أنت خير أم عبد المطلب ؟ أنت خير أم عبد الله ؟ لم تشتم آلهتنا وتضللنا ؟ فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك للواء فكنت رئيسنا ، وإن تكن بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختارهن ، أي بنات من شئت من قريش ، وإن كان المال مرادك جمعنا لك ما تستغني به ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت ، فلما فرغ قال : «بسم الله الرحمن الرحيم { حم * تنزيل من الرحمن الرحيم } إلى قوله { صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش ، فلم احتبس عنهم قالوا ، لا نرى عتبة إلا قد صبأ ، فانطلقوا إليه وقالوا يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت : فغضب وأقسم لا يكلم محمدا أبدا ، ثم قال : والله لقد كلمته فأجابني بشيء ما هو شعر ولا سحر ولا كهانة ، ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدته بالرحم ، ولقد علمت أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب .