روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{يُطَافُ عَلَيۡهِم بِصِحَافٖ مِّن ذَهَبٖ وَأَكۡوَابٖۖ وَفِيهَا مَا تَشۡتَهِيهِ ٱلۡأَنفُسُ وَتَلَذُّ ٱلۡأَعۡيُنُۖ وَأَنتُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (71)

{ يُطَافُ عَلَيْهِمْ } بعد دخولهم الجنة حيثما أمروا به { بصحاف مّن ذَهَبٍ وأكواب } كذلك ، والصحاف جمع صحفة قيل هي كالقصعة ، وقيل : أعظم أواني الأكل الجفنة ثم القصعة ثم الصحفة ثم الكيلة .

والأكواب جمع كوكب وهو كوز لا عروة له ، وهذا معنى قول مجاهد لا إذن له ، وهو على ما روى عن قتادة دون الإبريق ، وقال : بلغنا أنه مدور الرأس ولما كانت أواني المأكول أكثر بالنسبة لأواني المشروب عادة جمع الأول جمع كثرة والثاني جمع قلة ، وقد تظافرت الأخبار بكثرة الصحاف ، أخرج ابن المبارك . وابن أبي الدنيا في صفة الجنة . والطبراني في «الأوسط » بسند رجاله ثقات عن أنس قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن أسفل أهل الجنة أجمعين درجة لمن يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم بيد كل واحد صحفتان واحدة من ذهب والأخرى من فضة في كل واحدة لون ليس في الأخرى مثله يأكل من آخرها مثل ما يؤكل من أولها يجد لآخرها من الطيب واللذة مثل الذي يجد لأولها ثم يكون ذلك كرشح المسك الأذفر لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون إخواناً على سرر متقابلين " وفي حديث رواه عكرمة " إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة لرجل لا يدخل بعده أحد يفسح له في بصره مسيرة عام في قصور من ذهب وخيام من لؤلؤ ليس فيها موضع شبر إلا معمور يغدي عليه كل يوم ويراح بسبعين ألف صحفة في كل صحفة لون ليس في الأخرى مثله شهوته في آخرها كشهوته في أولها لو نزل عليه جميع أهل الأرض لوسع عليهم مما أعطى لا ينقص ذلك مما أوتي شيئاً " وروى ابن أبي شيبة هذا العدد عن كعب أيضاً ، وإذا كان ذلك لودنى فما ظنك بالأعلى ، رزقنا الله تعالى ما يليق بجوده وكرمه .

وأمال أبو الحرث عن الكسائي كما ذكر ابن خالويه بصحاف { وَفِيهَا } أي في الجنة { مَا تَشْتَهِيهِ } من فنو الملاذ { وَتَلَذُّ الاعين } أي تستلذ وتقر بمشاهدته ، وذكر ذلك الشامل لكل لذة ونعيم بعد ذكر الطواف عليهم بأواني الذهب الذي هو بعض من التنعم والترفه تعميم بعد تخصيص كما أن ذكر لذة العين التي هي جاسوس النفس بعد اشتهاء النفس تخصيص بعد تعميم ، وقال بعض الأجلة : إن قوله تعالى : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ } بصحاف دل على الأطعمة { وَأَكْوابٍ } على الأشربة ، ولا يبعد أن يحمل قوله سبحانه : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الانفس } على المنكح والملبس وما يتصل بهما ليتكامل جميع المشتهيات النفسانية فبقيت اللذة الكبرى وهي النظر إلى وجه الله تعالى الكريم فكنى عنه بقوله عز وجل : { وَتَلَذُّ الاعين } ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي عن أنس : " حبب إلى الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة " وقال قيس بن ملوح :

ولقد هممت بقتلها من حبها *** كيما تكون خصيمتي في المحشر

حتى يطول على الصراط وقوفنا *** وتلذ عيني من لذيذ المنظر

ويوافق هذا قول الإمام جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : شتان بين ما تشتهي الأنفس وبين ما تلذ الأعين لأن جميع ما في الجنة من النعيم والشهوات في جنب ما تلذ الأعين كأصبع تغمس في البحر لأن شهوات الجنة لها حد ونهاية لأنها مخلوقة ولا تلذ عين في الدار الباقية إلا بالنظر إلى الباقي جل وعز ولا حد لذلك ولا صفة ولا نهاية انتهى ، ويعلم مما ذكر أن المعنى على اعتبار وفيها ما تلذ الأعين وعلى ذلك بني الزمخشري قوله : هذا حصر لأنواع النعم لأنها أما مشتهاة في القلوب أو مستلذة في الأعين ، وتعقبه في «الكشف » فقال : فيه نظر لانتقاضه بمستلذات سائر المشاعر الخمس ، فإن قيل : إنها من القسم الأول قلنا : مستلذ العين كذلك فالوجه أنه ذكر تعظيماً لنعيمها بأنه مما يتوافق فيه القلب والعين وهو الغاية عندهم في المحبوب لأن العين مقدمة القلب ؛ وهذا قول بأنه ليس في الجملة الثانية اعتبار موصول آخر بل هي والجملة قبلها صلتان لموصول واحد وهو المذكور ، وما تقدم هو الذي يقتضيه كلام الأكثرين ، وحذف الموصول في مثل ذلك شائع ، ولا مانع من إدخال النظر إلى وجهه تعالى الكريم فيما تلذ الأعين على ما ذكرناه أولاً ، و { ءالَ } في الأنفس والأعين للاستغراق على ما قيل ، ولا فرق بين جمع القلة والكثرة .

ولعل من يقول : بأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع ويفرق بين الجمعين في المبدإ والمنتهى يقول : بأن استغراق جمع القلة أشمل من استغراق جمع الكثرة ، وقيل : هي للعهد ، وقيل : عوض عن المضاف إليه أي ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم ، وجمع النفس والعين الباصرة على أفعل في كلامهم أكثر من جمعهما على غيره بل ليس في القرآن الكريم جمع الباصرة إلا على ذلك ، وما أنسب هذا الجمع هنا لمكان { الاخلاء } [ الزخرف : 67 ] وحمل ما تشتهيه النفس على المنكح والملبس وما يتصل بهما خلاف الظاهر .

وفي الأخبار أيضاً ما هو ظاهر في العموم ، أخرج ابن أبي شيبة . والترمذي . وابن مردويه عن بريدة قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هل في الجنة خيل فإنها تعجبني ؟ قال : إن أحببت ذلك أتيت بفرس من ياقوتة حمراء فتطير بك في الجنة حيث شئت ، فقال له رجل : إن الإبل تعجبني فهل في الجنة من إبل ؟ فقال : يا عبد الله إن أدخلت الجنة فلك فيها ما تشتهي نفسك ولذت عينك " وأخرج أيضاً نحوه عن عبد الرحمن بن سابط وقال : هو أصح من الأول ، وجاء نحوه أيضاً في روايات أخر فلا يضره ما قيل من ضعف إسناده ، ولا يشكل على العموم أن اللواطة مثلاً لا تكون في الجنة لأن ما لا يليق أن يكون فيها لا يشتهي بل قيل في خصوص اللواطة أنه لا يشتهيها في الدنيا الأنفس السليمة .

واختلف الناس هل يكون في الجنة حمل أم لا فذهب بعض إلى الأول ، فقد أخرج الإمام أحمد . وهناد . والدارمي . وعبد بن حميد . وابن ماجه . وابن حبان . والترمذي وحسنه . وابن المنذر . والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري قال : " قلنا يا رسول الله إن الولد من قرة العين وتمام السرور فهل يولد لأهل الجنة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : إن المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي "

/ وذهب طاوس . وإبراهيم النخعي . ومجاهد . وعطاء . وإسحق بن إبراهيم إلى الثاني . فقد روى عن أبي رزين العقيلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أهل الجنة لا يكون لهم ولد " وفي حديث لقيط الطويل الذي رواه عبد الله بن الإمام أحمد . وأبو بكر بن عمرو . وأبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم . والطبراني . وابن حبان . ومحمد بن إسحق بن منده . وابن مردويه . وأبو نعيم . وجماعة من الحفاظ وتلقاه الأئمة بالقبول وقال فيه ابن منده : لا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة قلت : " يا رسول الله أو لنا فيها يعني الجنة أزواج أو منهن مصلحات ؟ قال : المصلحات للمصلحين تلذذونهن ويلذذنكم مثل لذاتكم في الدنيا غير أن لا توالد "

وقال مجاهد . وعطاء قوله تعالى : { وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ } [ البقرة : 25 ] أي مطهرة من الولد والحيض والغائط والبول ونحوها ، وقال إسحق بن إبراهيم في حديث أبي سعيد السابق : إنه على معنى إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي ولكن لا يشتهي ، وتعقب بأن { إِذَا } لمتحقق الوقوع ولو أريد ما ذكر لقيل . لو اشتهى ، وفي حادي الأرواح إسناد حديث أبي سعيد على شرط الصحيح فرجاله يحتج بهم فيه ولكنه غريب جداً .

وقال السفاريني في «البحور الزاخرة » حديث أبي سعيد أجود أسانيده إسناد الترمذي وقد حكم عليه بالغرابة وأنه لا يعرف إلا من حديث أبي الصديق التاجي وقد اضطرب لفظه فتارة يروى عنه إذا اشتهى الولد وتارة أنه يشتهي الولد وتارة أن الرجل ليولد له ، وإذا قد تستعمل لمجرد التعليق الأعم من المحقق وغيره ، ورجح القول بعدم الولادة بعشرة وجوه مذكورة فيها ، وأنا أختار القول بالولادة كما نطق بها حديث أبي سعيد وقد قال فيه الأستاذ أبو سهل فيما نقله الحاكم : إنه لا ينكره إلا أهل الزيغ ، وفيه غير إسناد ، وليس تكون الولد على الوجه المعهود في الدنيا بل يكون كما نطق به الحديث ومتى كان كذلك فلا يستبعد تكونه من نسيم يخرج وقت الجماع ، وزعم أن الولد إنما يخلق من المني فحيث لا مني في الجنة كما جاء في الاخبار لا خلق فيه تعجيز للقدرة ، ولا ينافي ذلك ما في خديث لقيط لأن المراد هناك نفي التوالد المعهود في الدنيا كما يشير إليه وقوع غير أن لا توالد بعد قوله عليه الصلاة والسلام : " مثل لذاتكم في الدنيا " ، ويقال نحو ذلك في حديث أبي رزين جمعاً بين الأخبار ، ثم إن التوالد ليس على سبيل الاستمرار بل هو تابع للاشتهاء ولا يلزم استمراره فالقول بأنه إن استمر لزم وجود أشخاص لا نهاية لها وإن انقطع لزم انقطاع نوع من لذة أهل الجنة ليس بشيء ، وما قيل : إنه قد ثبت في «الصحيح » أنه صلى الله عليه وسلم قال : " يبقى في الجنة فضل فينشى الله تعالى لها خلقاً يسكنهم إياها " ولو كان في الجنة إيلاد لكان الفضل لأولادهم الملازمة فيه ممنوعة لجواز أن يقال من يشتهي الولد يشتهي أن يكون معه في منزله ، والقول بأن التوالد في الدنيا لحكمة بقاء النوع وهو باق في الجنة بدون توالد فيكون عبثاً يرد عليه أنه ما المانع من أن يكون هناك للذة ونحوها كالأكل والشرب فإنهما في الدنيا لشيء وفي الجنة لشيء آخر ، وبالجملة ما ذكر لترجيح عدم الولادة من الوجوه مما لا يخفى حاله على من له ذهن وجيه .

وقرأ غير واحد من السبعة وغيرهم { مَا تَشْتَهِى * الانفس وَتَلَذُّ الاعين } بحذف الضمير العائد على { مَا } من الجملتين المتعاطفتين ، وفي مصحف عبد الله { مَا تَشْتَهِيهِ الانفس وَتَلَذُّ الاعين } بالضمير فيهما ، والقراءة به في الأول دون الثانية لأبي جعفر . وشيبة . ونافع . وابن عامر . وحفص { وَأَنتُمْ فِيهَا } أي في الجنة ، وقيل : في الملاذ المفهومة مما تقدم وهو كما ترى { خالدون } دائمون أبد الآبدين ، والجملة داخلة في حيز النداء وهي كالتأكيد لقوله تعالى : { لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ } [ الزخرف : 68 ] ونودوا بذلك إتماماً للنعمة وإكمالاً للسرور فإن كل نعيم زائل موجب لكلفة الحفظ وخوف الزوال ومستعقب للتحسر في ثاني الأحوال ، ولله تعالى در القائل :

وإذا نظرت فإن بؤساً زائلا *** للمرء خير من نعيم زائل

وعن النصرأباذي أنه إن كان خلودهم لشهوة الأنفس ولذة الأعين فالفناء خير من ذلك وإن كان لفناء الأوصاف والاتصاف بصفات الحق والمقام فيها على سرر الرضا والمشاهدة فأنتم إذاً أنتم ، وأنت تعلم أن ما ذكره يدخل في عموم ما تقدم دخولاً أولياً ، وذكر بعضهم هنا أن الخطاب هنا من باب الالتفات وأنه للتشريف .

وقال الطيبي : ذق مع طبعك المستقيم معنى الخطاب والالتفات وتقديم الظرف في { وَأَنتُمْ فِيهَا خالدون } لتقف على ما لا يكتنهه الوصف .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يُطَافُ عَلَيۡهِم بِصِحَافٖ مِّن ذَهَبٖ وَأَكۡوَابٖۖ وَفِيهَا مَا تَشۡتَهِيهِ ٱلۡأَنفُسُ وَتَلَذُّ ٱلۡأَعۡيُنُۖ وَأَنتُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (71)

{ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ } أي : تدور عليهم خدامهم ، من الولدان المخلدين بطعامهم ، بأحسن الأواني وأفخرها ، وهي صحاف الذهب وشرابهم ، بألطف الأواني ، وهي الأكواب التي لا عرى لها ، وهي من أصفى الأواني ، من فضة أعظم من صفاء القوارير .

{ وَفِيهَا } أي : الجنة { مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } وهذا لفظ جامع ، يأتي على كل نعيم وفرح ، وقرة عين ، وسرور قلب ، فكل ما اشتهته النفوس ، من مطاعم ، ومشارب ، وملابس ، ومناكح ، ولذته العيون ، من مناظر حسنة ، وأشجار محدقة ، ونعم مونقة ، ومبان مزخرفة ، فإنه حاصل فيها ، معد لأهلها ، على أكمل الوجوه وأفضلها ، كما قال تعالى : { لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ } { وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وهذا هو تمام نعيم أهل الجنة ، وهو الخلد الدائم فيها ، الذي يتضمن دوام نعيمها وزيادته ، وعدم انقطاعه .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{يُطَافُ عَلَيۡهِم بِصِحَافٖ مِّن ذَهَبٖ وَأَكۡوَابٖۖ وَفِيهَا مَا تَشۡتَهِيهِ ٱلۡأَنفُسُ وَتَلَذُّ ٱلۡأَعۡيُنُۖ وَأَنتُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (71)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{يطاف عليهم} بأيدي الغلمان.

{بصحاف من ذهب وأكواب} من فضة، يعني الأكواب التي ليس لها عرى مدورة الرأس في صفاء القوارير.

{وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون} لا تموتون...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: يُطاف على هؤلاء الذين آمنوا بآياته في الدنيا إذا دخلوا الجنة في الآخرة بصحاف من ذهب، وهي جمع للكثير من الصّحْفة، والصّحْفة: القصعة... وقوله:"وأكْوَابٍ" وهي جمع كوب، والكوب: الإبريق المستدير الرأس، الذي لا أذن له ولا خرطوم... ومعنى الكلام: يطاف عليهم فيها بالطعام في صِحاف من ذهب، وبالشراب في أكواب من ذهب، فاستغنى بذكر الصّحاف والأكواب من ذكر الطعام والشراب، الذي يكون فيها لمعرفة السامعين بمعناه. "وَفِيها ما تَشْتَهيه الأَنْفُسُ وَتَلَذّ الأَعْيُنُ "يقول تعالى ذكره: لكم في الجنة ما تشتهي نفوسكم أيها المؤمنون، وتلذّ أعينكم.

"وأنْتُمْ فِيها خالِدُونَ" يقول: وأنتم فيها ماكثون، لا تخرجون منها أبدا.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

يحتمل ذكر الصحاف من الذهب والأكواب وجوها:

أحدها: ذكر ذلك لهم في الآخرة ترغيبا لهم فيها وتحريضا لما يرغبون بمثل ذلك إلى السعي للآخرة.

والثاني: يحتمل أن ما ذكر ذلك لأن أهل الدنيا كانوا يتفاخرون بهذه الأشياء في الدنيا، فيُخبِر أن لأوليائه ذلك في الآخرة وذلك دائم، وهذا فانٍ ولا عبرة للفاني، فما معنى الافتخار به؟

والثالث: يحتمل أنه ذكر ذلك لأنه حرّم عليهم الانتفاع في الدنيا باستعمال الذهب والفضة والحرير، فأخبر أن لهم الانتفاع بذلك في الآخرة التي هي دار التنعُّم فأما ما سوى ذلك من العُرُش والأواني فإنه لا بأس بذلك، وهو مباح في الدارين جميعا.

وأما ذكر الأكواب فيحتمل وجهين أيضا:

أحدهما: الترغيب على ما ذكرنا؛ لأنهم يتمنّون، ويرغبون فيها في الدنيا.

والثاني: يُخبر أن لا مُؤنة عليهم في حمل الأواني ورفعها عند الشرب والأكل، ولا يتولّون ذلك بأنفسهم، لكن الخدم هم الذين يتولّون سقيهم.

{وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين} فذلك في الجنة ليس كنعيم الدنيا؛ لأن في الدنيا قد يشتهي شاربها، ولا تلذّ به العيون. ويحتمل أنه ذكر ذلك في الآخرة لما مُنعوا، وحُرموا في الدنيا مما لا يحلّ.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

هذا حصر لأنواع النعم، لأنها إما مشتهاة في القلوب، وإما مستلذة في العيون...

مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي 548 هـ :

... وقد جمع الله سبحانه بقوله (ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين) ما لو اجتمع الخلائق كلهم على أن يصفوا ما في الجنة من أنواع النعيم، لم يزيدوا على ما انتظمته هاتان الصفتان.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان هذا أمراً سائقاً إلى حالهم سابقاً لمن كان واقفاً عنهم إلى وصالهم، أقبل على ما لعله يوقفه الاشتغال بلهو أو مال محركاً لما جهل منه، ومنبهاً على ما غفل عنه، فقال عائداً إلى الغيبة ترغيباً في التقوى: {يطاف عليهم} أي المتقين الذين جعلناهم بهذا النداء ملوكاً.

{بصحاف} جمع صحفة وهي القصعة {من ذهب} فيها من ألوان الأطعمة والفواكه والحلوى ما لا يدخل تحت الوهم.

ولما كانت آنية الشرب في الدنيا أقل من آنية الأكل، جرى على ذلك المعهود، فعبر بجمع القلة في قوله: {وأكواب} جمع كوب وهو كوز مستدير مدور الرأس لا عروة له، قد تفوق عن شيء منه اليد أو الشفقة أو يلزم منها بشاعة في شيء من دائر الكوز، وإيذاناً بأنه لا حاجة أصلاً إلى تعليق شيء لتزيد أوصافه عن أذى أو نحو ذلك.

ولما رغب فيها بهذه المغيبات، أجمل بما لا يتمالك معه عاقل عن المبادرة إلى الدخول فيما يخصها فقال: {وفيها} أي الجنة.

ولما كانت اللذة محصورة في المشتهى قال تعالى: {ما تشتهيه الأنفس} من الأشياء المعقولة والمسموعة والملموسة وغيرها؛ جزاء لهم على ما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا، ولما كان ما يخص المبصرات من ذلك أعظم، خصها فقال:

{وتلذ الأعين} من الأشياء المبصرة التي أعلاها النظر إلى وجهه الكريم تعالى، جزاء ما تحملوه من مشاق الاشتياق.

ولما كان ذلك لا يكمل طيبه إلا بالدوام، قال عائداً إلى الخطاب؛ لأنه أشرف وألذ مبشر لجميع المقبلين على الكتاب، والملتفت إليهم بالترغيب في هذا الثواب، بشارة لهذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام بما قدمه في أول السورة وأثنائها من بلوغ قومه نهاية العقل والعلم الموصلين إلى أحسن العمل الموجب للسعادة: {وأنتم فيها خالدون} لبقائها وبقاء كل ما فيها، فلا كلفة عليكم أصلاً من خوف من زوال ولا حزن من فوات.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{ما تشتهيه الأنفس} كلّ ما تتعلق الشهوات النفسية بنواله وتحصيله، والله يخلق في أهل الجنة الشهوات اللائقة بعالم الخلود والسمو...

ولذة الأعين في رؤية الأشكال الحسنة والألوان التي تنشرح لها النفس، فلذّة الأعين وسيلة للذة النفوس فعطف {وتلَذّ الأعين} على {ما تشتهيه الأنفس} عطف ما بينه وبين المعطوف عليه عمومٌ وخصوص، فقد تشتهي الأنفس ما لا تراه الأعين كالمحادثة مع الأصحاب وسماعِ الأصوات الحسنة والموسيقى. وقد تبصر الأعين ما لم تسبق للنفس شهوة رؤيتِه أو ما اشتهت النفس طعمه أو سمعه فيؤتى به في صور جميلة إكمالاً للنعمة...

.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

تقول في بيان النعمة الثالثة: (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب) فهم يُضافون ويخدمون بأفضل الأواني، وألذّ الأطعمة، في منتهى الهدوء والاطمئنان والصفاء.

«الصحاف» جمع صحفة، وهي في الأصل من مادة صحف، أي التوسع، وتعني هنا الأواني الكبيرة الواسعة والأكواب.

ومع أنّ الكلام في الآية عن الصحاف الذهبية، دون طعامهم وشرابهم، إلاّ أن من البديهي أنّ الذين يخدمونهم لا يطوفون عليهم بصحاف خالية مطلقاً.

وتشير في الرابعة والخامسة إلى نعمتين أُخريين جمعت فيهما كلّ نعم العالم المادية والمعنوية، فتقول: (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين)، وعلى قول المرحوم الطبرسي في مجمع البيان: لو أنّ جميع الخلائق قد اجتمعت لوصف أنواع نعم الجنّة، فسوف لا يقدرون أن يضيفوا شيئاً على ما جاء في هذه الجملة أبداً.

وأي تعبير أجمل من هذا التعبير وأجمع منه؟ فهو تعبير بسعة عالم الوجود، وبسعة ما يخطر في أذهاننا اليوم وما لا يخطر، تعبير ليس فوقه تعبير.

والطريف أن مسألة شهية النفس قد بيّنت منفصلة عن لذة العين، وهذا الفصل عميق المعنى: فهل هو من قبيل ذكر الخاص بعد العام، من جهة أن للذّة النظر أهمية خاصّة تفوق اللذات الأُخرى؟ أم هو من جهة أن جملة: (ما تشتهيه الأنفس) تبيّن لذات الذوق والشم والسمع واللمس، أمّا جملة (تلذ الأعين) فهي تبيان للذة العين والنظر.

ويعتقد البعض أنّ جملة: (ما تشتهيه الأنفس) إشارة إلى كلّ اللذات الجسمية، في حين أن جملة (تلذ الأعين) مبينة للذات الروحية، وأي لذة في الجنة أسمى من أن ينظر الإِنسان بعين القلب إلى جمال الله الذي لا يشبهه جمال، فإنّ لحظة من تلك اللحظات تفوق كل نعم الجنة المادية.

ومن البديهي أنّ شوق الحبيب كلما زاد، كانت لذة اللقاء أعظم.