السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يُطَافُ عَلَيۡهِم بِصِحَافٖ مِّن ذَهَبٖ وَأَكۡوَابٖۖ وَفِيهَا مَا تَشۡتَهِيهِ ٱلۡأَنفُسُ وَتَلَذُّ ٱلۡأَعۡيُنُۖ وَأَنتُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (71)

وقوله تعالى : { يطاف } قبله محذوف أي : يدخلون يطاف { عليهم } أي : المتقين الذي جعلناهم بهذا النداء ملوكاً { بصحاف من ذهب } فيها من ألوان الأطعمة والفواكه والحلوى ما لا يدخل تحت الوهم ، والصحاف جمع صَحْفَة كجفنة وجفان ، قال الجوهري : الصحفة كالقصعة والجمع صحاف ، قال الكسائي : أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة تليها تشبع العشرة ثم الصحفة تشبع الخمسة ثم المِئكلة تشبع الرجلين والثلاثة ثم الصحيفة تشبع الرجل والصحيفة الكتاب والجمع صحف وصحائف .

ولما كانت آلة الشرب في الدنيا أقل من آنية الأكل جرى على ذلك المعهود فعبر بجمع القلة في قوله تعالى : { وأكواب } جمع كوب وهو كوز مستدير مدور الرأس لا عروة له إيذاناً بأنه لا حاجة أصلاً إلى تعليق شيء لتبريد أو صيانة عن أذى أو نحو ذلك : وقيل : هو كالإبريق إلا أنه لا عروة له ، وقيل : إنه لا خرطوم له ، وقيل : إنه لا عروة له ولا خرطوم معاً قال الجواليقي : ليتمكن الشارب من أين شاء فإن العروة تمنع من ذلك وقال عدي :

متكئاً تصفق أبوابه *** يطوف عليه العبد بالكوب

ثم إنه تعالى لما ذكر التفصيل ذكر بياناً كلياً فقال { وفيها } أي : الجنة { ما تشتهي الأنفس } من الأشياء المعقولة والمسموعة والملموسة جزاء لهم بما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا { وتلذ الأعين } أي : من الأشياء المبصرة التي أعلاها النظر إلى وجهه الكريم جزاء ما تحملوه من مشاق الاشتياق .

روي أن رجلاً قال : «يا رسول الله أفي الجنة خيل فإني أحب الخيل فقال : إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرساً من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت ، فقال أعرابي : يا رسول الله أفي الجنة إبل فإني أحب الإبل فقال : يا أعرابي إن أدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك » وقرأ نافع وابن عامر وحفص بهاء بعد الياء بإثبات العائد على الموصول كقوله تعالى : { الذي يتخبطه الشيطان من المس } ( البقرة : 275 ) والباقون بغيرها بعد الياء كقوله تعالى : { أهذا الذي بعث الله رسولاً } ( الفرقان : 41 ) وهذه القراءة مشبهة بقوله تعالى : { وما عملته أيديهم } ( يس : 35 ) وهذه الهاء في هذه السورة رسمت في مصاحف المدينة والشام وحذفت من غيرها ، وقد وقع لأبي عبد الله الفاسي شارح القصيدة وهم فسبق قلمه فكتب الهاء منه محذوفة في مصاحف المدينة والشام مثبوتة في غيرها فعكس .

ولما كان ذلك لا يكمل إلا بالدوام قال تعالى عائداً إلى الخطاب لأنه أشرف وأكد { وأنتم فيها خالدون } لبقائها وبقاء كل ما فيها فلا كلفة عليهم أصلاً من خوف من زوال ولا خوف من فوات .