روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَشۡكُرُونَ} (60)

{ وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب } كلام مسوق من جهته تعالى لبيان هول ما سيلقونه غير داخل تحت القول المأمور به ، والتعبير عنهم بالموصول لقطع احتمال الشق الأول من الترديد والتسجيل عليهم بالافتراء ، وزيادة الكذب مع أن الافتراء لا يكون إلا كذلك لإظهار لإظهار كمال قبح ما افتعلوا وكونه كذباً في اعتقادهم أيضاً ، و { مَا } استفهامية مبتدأ و { ظَنَّ } خبرها هو مصدر مضاف إلى فاعله ومفعولاه محذوفان .

وقوله سبحانه : { يَوْمُ القيامة } ظرف لنفس الظن لا بيفترون لعدم صحته معنى ولا بمقدر لأن التقدير خلاف الظاهر ، أي أي شيء ظنهم في ذلك اليوم أني فاعل بهم ، والمقصود التهديد والوعيد ، ويدل على تعلقه بالظن قراءة عيسى ابن عمر { وَمَا ظَنُّ } بصيغة الماضي و { مَا } في هذه القراءة بمعنى الظن في محل نصب على المصدرية ، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع وأكثر أحوال القيامة يعبر عنها بذلك في القرآن لما ذكر ، والعمل في الظرف المستقبل لا يمنع لتصييره الفعل نصاً في الاستقبال التجوز المذكور لأنه يقدر لتحققه أيضاً ماضياً ، وقيل : الظرف متعلق بما يتعلق به ظنهم اليوم من الأمور التي ستقع يوم القيامة تنزيلاً له ولما يقع فيه من الأهوال لمكان وضوح أمره في التحقق والتقرر منزلة المسلم عندهم ، أي أي شيء ظنهم لما سيقع يوم القيامة أيحسبون أنهم لا يسألون عن افترائهم أو لا يجازون عليه أو يجازون جزاءً يسيراً ولذلك ما يفعلون يفعلون كلا إنهم لفي أشد العذاب لأن معصيتهم أشد المعاصي ، والآية السابقة قيل متصلة بقوله سبحانه : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض } [ يونس : 31 ] الخ كأنه قيل : حيث أقروا أنه سبحانه الرازق قل لهم أرأيتم ما أنزل الله الخ ونقل ذلك عن أبي مسلم ، وقيل : بقوله تعالى { يا أيها الناس } [ يونس : 57 ] الخ ، وذلك أنه جل شأنه لما وصف القررن بما وصفه وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرغب باغتنام ما فيه عقب ذلك بذكر مخالفتهم لما جاء به وتحريمهم ما أحل ، وقيل : إنها متصلة بالآيات الناعية عليهم سوء اعتقادهم كأنه سبحانه بعد أن نعى عليهم أصولهم بين بطلان فروعهم ، ولعل خير الثلاثة وسطها .

{ إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ } أي عظيم لا يقدر قدره ولا يكتنه كنهه { عَلَى الناس } جميعاً حيث أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وبين لهم ما لا تستقل عقولهم بإدراكه وأرشدهم إلى ما يهمهم من أمر المعاش والمعاد ورغبهم ورهبهم وشرح لهم الأحوال وما يلقاه الحائد عن الرشاد من الأهوال .

{ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } ذلك الفضل فلا ينتفعون به ، ولعل الجملة تذييل لما سبق مقرر لمضمونه .

( ومن باب الإشارة ) :ثم إنه سبحانه أوعد المفترين بقوله عز من قائل : { وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ } الخ ، ففي الآية إشارة إلى سوء حال المنكرين على من تحلى بالمعارف الإلهية ، ولعل منشأ ذلك زعمهم انحصار العلم فيما عندهم ولم يعلموا أن وراء علومهم علوماً لا تحصى يمن الله تعالى بها على من يشاء ، وفي قوله تعالى : { وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً } [ طه : 114 ] إشارة إلى ذلك فما أولاهم بأن يقال لهم : { مَا أُوتِيتُمْ مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] ومن العجيب أنهم إذا سمعوا شيئاً من أهل الله تعالى مخالفاً لما عليه مجتهدوهم ردوه وقالوا : زيغ وضلال واعتمدوا في ذلك على مجرد تلك المخالفة ظناً منهم أن الحق منحصر فيما جاء به أحد أولئك المجتهدين مع أن الاختلاف لم يزل قائماً بينهم على ساق .

على أنه قد يقال لهم : ما يدريكم أن هذا القائل الذي سمعتم منه ما سمعتم وأنكرتموه أنه مجتهد أيضاً كسائر مجتهديكم ؟ فإن قالوا : إن للمجتهد شروطاً معلومة وهي غير موجودة فيه قلنا : هذه الشروط التي وضعت للمجتهد في دين الله تعالى هل هي منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحاً أو صنعتموها أنتم من تلقاء أنفسكم أو صنعها المجتهد ؟ فإن كانت منقولة عن الرسول عليه الصلاة والسلام فأتوا بها واتلوها وصححوا نقلها إن كنتم صادقين وهيهات ذاك ، وإن كان الواضع لها أنتم وأنتم أجهل من ابن يوم فهي رد عليكم ولا حباً ولا كرامة على أن في اعتبارها أخذاً بكلام من ليس مجتهداً وأنتم لا تجوزونه ، وإن كان الواضع لها المجتهد فإثبات كونه مجتهداً متوقف على اعتبار تلك الشروط واعتبار تلك الشروط متوقف على إثبات كونه مجتهداً وهل هذا إلا دور وهو محال لو تعقلونه ، وأيضاً لم لا يجوز أن تكون تلك الشروط شروطاً للمجتهد النقلي وهناك مجتهد آخر شرطه تصفية النفس وتزكيتها وتخلقها بالخلق الرباني وتهيؤها واستعدادها لقبول العلم من الله تعالى ؟ وأي مانع من أن يخلق الله تعالى العلم فيمن صفت نفسه وتهيأت بالفقر واللجأ إلى الله تعالى وصدق عزمه في الأخذ ولم يتكل على حوله وقوته كما يخلقه فيمن استوفى شروط الاجتهاد عندكم فاجتهد وصرف فكره ونظره ؟ والقول بأنه سبحانه إنما يخلق العلم في هذا دون ذاك حجر على الله تعالى وخروج عن الإنصاف كما لا يخفى ، فلا ينبغي للمصنف العارف بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده إلا أن يسلم لمن ظهرت فيه آثار التصفية والتهىء وسطعت عليه أنوار التخلق بالخلق الرباني ما أتى به ولو لم يأت به مجتهد ما لم يخالف ما علم مجيئه من الدين بالضرورة ، ويأبى الله تعالى أن يأتي ذلك بمثل ما ذكر .

لكن ذكر مولانا الإمام الرباني ومجدد الألف الثاني قدس سره في بعض مكتوباته الفارسية أنه لا يجوز تقليد أهل الكشف في كشفهم لأن الكشف لا يكون حجة على الغير وملزماً له ، وقد يقال : ليس في هذا أكثر من منع تقليد أهل الكشف ، ومحل النزاع الإنكار عليهم ورميهم والعياذ بالله تعالى بالزندقة وليس في الكلام أدنى رائحة منه كما لا يخفى { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } [ البقرة : 342 ] بصنفي العلمين وإفاضتهما بعد تهيئة الاستعداد لقبولهما { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } [ يونس : 60 ] ذلك ولا يعرفون قدره فيمنعون عن الزيادة