روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{۞وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} (23)

{ وقضى رَبُّكَ } أخرج ابن جرير . وابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال : أي أمر { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } أي بأن لا تعبدوا الخ على أن مصدرية والجار قبلها مقدر ولا نافية والمراد النهي ، ويجوز أن تكون ناهية كما مر ولا ينافيه التأويل بالمصدر كما أسلفناه أو أي لا تعبدوا الخ على أن أن مفسرة لتقدم ما تضمن معنى القوى دون حروفه ولا ناهية لا غير ، وجوز بعضهم أن تكون أن مخففة واسمها ضمير شأن محذوف ولا ناهية أيضاً وهو كما ترى وجوز أبو البقاء أن تكون أن مصدرية ولا زائدة والمعنى الزم ربك عبادته وفيه أن الاستثناء يأبى ذلك . وفي «الكشاف » تفسير قضى بأمر أمراً مقطوعاً به وجعل ذلك غير واحد من باب التضمين وجعل المضمن أصلاً والمتضمن قيداً وقال بعضهم : أراد أن القضاء مجاز عن الأمر المبتوت الذي لا يحتمل النسخ ولو كان ذلك من التضمين لكان متعلق القضاء الأمر دون المأمور به وإلا لزم أن لا يعبد أحد غير الله تعالى فيحتاج إلى تخصيص الخطاب بالمؤمنين فيرد عليه بأن جميع أوامر الله تعالى بقضائه فلا وجه للتخصيص . وتعقب بأن ما ذكر متوجه لو أريد بالقضاء أخو القدر أما لو أريد به معناه اللغوي الذي هو البت والقطع المشار إليه فلا يرد ما ذكره ، ثم إن لزوم أن لا يعبد أحد غير الله تعالى ادعاه ابن عباس فيما يروى للقضاء من غير تفصيل ، فقد أخرج أبو عبيد . وابن منيع ، وابن المنذر . وابن مروديه من طريق ميمون بن مهران عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : أنزل الله تعالى هذا الحرف على لسان نبيكم { ووصى * رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه } فلصقت إحدى الواوين بالصاد فقرأ الناس { وقضى رَبُّكَ } ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد ، وأخرج مثل ذلك عنه جماعة من طريق سعيد بن جبير . وابن أبي حاتم من طريق الضحاك ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود . وأبي بن كعب رضي الله تعالى عنهما أيضاً وهذا إن صح عجيب من ابن عباس لاندفاع المحذور بمحمل القضاء على الأمر ولا أقل كما هو مروي عنه أيضاً نعم قيل إن ذلك معنى مجازي للقضاء وقيل إنه حقيقي . وفي مفردات الراغب القضاء فصل الأمر قولاً كان أو فعلاً وكل منهما إلهي وبشري فمن القول الإلهي قوله تعالى : { وقضى رَبُّكَ * أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ * إياه } أي أمر ربك إلى آخر ما قال ، ثم إن هذا الأمر عند البعض بمعنى مطلق الطلب ليتناول طلب ترك العبادة لغيره تعالى ، ويغني عن هذا التجوز كما قيل إن معنى لا تعبدوا غيره اعبدوه وحده فهو أمر باعتبار لازمه ، وإنما اختير ذلك للإشارة إلى أن التخلية بترك ما سواه مقدمة مهمة هنا ، وأمر سبحانه أن لا يعبدوا غيره تعالى لأن العبادة غاية التعظيم وهي لا تليق إلا لمن كان في غاية العظمة منعماً بالنعم العظام وما غير الله تعالى كذلك ، وهذا وما عطف عليه من الأعمال الحسنة كالتفصيل للسعي للآخرة .

{ وبالوالدين إحسانا } أي وبأن تحسنوا بهما أو أحسنوا بهما إحساناً ، ولعله إذا نظر إلى توحيد الخطاب فيما بعد قدر وأحسن بالتوحيد أيضاً ، والجار والمجرور متعلق بالفعل المقدر وهو الذي ذهب إليه الزمخشري ومنع تعلقه بالمصدر لأن صلته لا تتقدم عليه ، وعلقه الواحدي به فقال الحلبي : إن كان المصدر منحلاً بأن والفعل فالوجه ما ذهب إليه الزمخشري وإن جعل نائباً عن الفعل المحذوف فالوجه ما قاله الواحدي ، ومذهب الكثير من النحاة جواز تقديم معموله إذا كان ظرفاً مطلقاً لتوسعهم فيه والجار والمجرور أخوه .

{ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } إما مركبة من إن الشرطية وما المزيدة لتأكيدها .

قال الزمخشري : ولذا صح لحوق النون المؤكدة للفعل ولو أفردت إن لم يصح لحوقها واختلف في لحاقها بعد الزيادة فقال أبو إسحق بوجوبه ، وعن سيبويه القول بعدم الوجوب ويستشهد له بقول أبي حية النميري :

فأما ترى لمتي هكذا . . . فقد أدرك الفتيات الخفارا

وعليه قول ابن دريد :

أما ترى رأسي حاكي لونه . . . طرة صبح تحت أذيال الدجى

ومعنى { عِندَكَ } في كنفك وكفالتك ، وتقديمه على المفعول مع أن حقه التأخير عنه للتشويق إلى وروده فإنه مدار تضاعف الرعاية والإحسان ، و { أَحَدُهُمَا } فاعل للفعل ، وتأخيره عن الظرف والمفعول لئلا يطول الكلام به وبما عطف عليه و { كِلاَهُمَا } معطوف عليه .

وقرأ حمزة . والكسائي { أَمَّا } فأحدهما على ما في «الكشاف » بدل من ألف الضمير لا فاعل والألف علامة التثنية على لغة أكلوني البرغيث فإنه رد بأن ذلك مشروط بأن يسند الفعل للمثنى نحو قاما أخواك أو لمفرق بالعطف بالواو خاصة على خلاف فيه نحو قاما زيد وعمرو وما هنا ليس كذلك . واستشكلت البدلية بأن { رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا } على ذلك بدل بعض من كل لأكل من كل لأنه ليس عينه و { كِلاَهُمَا } معطوف عليه فيكون بدل كل من كل لكنه خال عن الفائدة على أن عطف بدل الكل على غيره مما لم نجده . وأجيب بأنا نسلم أنه لم يفد البدل زيادة على المبدل منه لكنه لا يضر لأنه شأن التأكيد ولو سلم أنه لا بد من ذلك ففيه فائدة لأنه بدل مقسم كما قاله ابن عطية فهو كقوله :

فكنت كذي رجلين رجل صحيحة . . . وأخرى رمى فيها الزمان فشلت

وتعقب بأنه ليس من البدل المذكور لأنه شرطه العفط بالواو وأن لا يصدق المبدل منه على أحد قسميه وهنا قد صدق على أحهدما ، وبالجملة هذا الوجه لا يخلو عن القيل والقال ، وعن أبي علي الفارسي أن { أَحَدُهُمَا } بدل من ضمير التثنية و { كِلاَهُمَا } تأكيد للضمير ، وتعقب بأن التأكيد لا يعطف على البدل كما لا يعطف على غيره وبأن أحدهما لا يصلح تأكيداً للمثنى ولا غيره فكذا ما عطف عليه وبأن بين إبدال بدل البعض منه وتوكيده تدافعاً لأن التأكيد يدفع إرادة البعض منه ، ومن هنا قال في «الدر المصون » لا بد من إصلاحه بأن يجعل أحدهما بدل بعض من كل ويضمر بعده فعل رافع لضمير تثنية و { كِلاَهُمَا } توكيد له والتقدير أو يبلغان كلاهما وهو من عطف الجمل حينئذ لكن فيه حذف المؤكد وأبقاء تأكيده وقد منعه بعض النحاة وفيه كلام في مفصلات العربية ، ولعل المختار إضمار فعل لم يتصل به ضمير التثنية وجعل { كِلاَهُمَا } فاعلاً له فإنه سالم عماسمعت في غيره ولذا اختاره في البحر ، وتوحيد ضمير الخطاب في { عِندَكَ } وفيما بعده مع أن ما صرح به فيما سبق على الجمع للاحتراز عن التباس المراد وهو نهي كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما فإنه لو قوبل الجمع بالجمع أو التثنية بالتثنية لم يحصل ذلك ، وذكر أنه وحد الخطاب في { لاَ تَجْعَلْ } [ الإسراء : 22 ] للمبالغة وجمع في { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ * إياه } لأنه أوفق لتعظيم أمر القضاء { فَلاَ تَقُل لَّهُمَا } أي لواحد منهما حخالتي الانفراد والاجتماع { أُفّ } هو اسم صوت ينبىء عن التضجر أو اسم فعل هو أتضجر واسم الفعل بمعنى المضارع وكذا بمعنى الماضي قليل والكثير بمعنى الأمر وفيه نحو من أربعين لغة والوارد من ذلك في القراآت سبع ثلاث متواترة وأربع شاذة . فقرأ نافع . وحفص بالكسر والتنوين وهو للتنكير فالمعنى أتضجر تضجرا ما وإذا لم ينون دل على تضجر مخصوص . وقرأ ابن كثير . وابن عامر بالفتح دون تنوين ، والباقون بالكسر دون تنوين وهو على أصل التقاء الساكنين والفتح للخفة ولا خلاف بينهم في تشديد الفاء . وقرأ نافع في رواية عنه بالرفع والتنوين ، وأبو السمال بالضم للاتباع من غير تنوين ، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنه بالنصب والتنوين ، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالسكون ، ومحصل المعنى لا تتضجر مما يستقذر منهما وتستثقل من مؤنهما ، والنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياساً جلياً لأنه يفهم بطريق الأولى ويسمى مفهوم الموافقة ودلالة النص وفحوى الخطاب ، وقيل يدل على ذلك حقيقة ومنطوقاً في عرف اللغة كقولك : فلان لا يملك النقير والقطمير فإنه يدل كذلك على أنه لا يملك شيئاً قليلاً أو كثيراً ، وخص بعض أنواع الإيذاء بالذكر في قوله تعالى : { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } للاعتناء بشأنه ، والنهر كما قال الراغب الزجر بأغلاظ ، وفي «الكشاف » النهي والنهر والنهم أخوات أي لا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك .

وقال الإمام : المراد من قوله تعالى : { وَلاَ * تَقُل لَّهُمَا أُفّ } المنع من إظهار الضجر القليل والكثير والمراد من قوله سبحانه { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما ولذا روعي هذا الترتيب وإلا فالمنع من التأفيف يدل على المنع من النهر بطريق الأولى فيكون ذكره بعده عبثاً فتأمل .

{ وَقُل لَّهُمَا } بدل التأفيف والنهر { قَوْلاً كَرِيمًا } أي جميلاً لا شراسة فيه ، قال الراغب : كل شيء يشرف في بابه فإنه يوصف بالكرم ، وجعل ذلك بعض المحققين من وصف الشيء باسم صاحبه أي قولاً صادراً عن كرم ولطف ويعود بالآخرة إلى القول الجميل الذي يقتضيه حسن الأدب ويستدعيه النزول على المروءة مثل أن يقول يا أبتاه ويا أماه ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوء الأدب ، وليس القول الكريم مخصوصاً بذلك كما يوهمه اقتصار الحسن فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم عليه فإنه من باب التمثيل ، وكذا ما أخرج عن زهير بن محمد أنه قال فيه : إذا دعواك فل لبيكما وسعديكم .

وأخرج هو وابن جرير . وابن المنذر عن أبي الهداج أنه قال : قلت لسعيد بن المسيب كل ما ذكر الله تعالى في القرآن من الوالدين فقد عرفته إلا قوله سبحانه : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا } ما هذا القول الكريم ، فقال ابن المسيب قول العبد المذنب للسيد الفظ .

( ومن باب الإشارة ) :

{ وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه } [ الإسراء : 23 ] قالت الوجودية من الصوفية : إنه تعالى سبق قضاؤه أن لا يعبد سواه فكل عابد إنما يعبد الله سبحانه من حيث يدري ومن حيث لا يدري فإنه جل شأنه الأول والآخر والظاهر والباطن والأعيان الثابتة ما شمت رائحة الوجود ولا تشمه أبداً ، ومما ينسبونه إلى زين العابدين رضي الله تعالى عنه ويزعمون أنه مشيراً إلى مدعاهم قوله :

إني لأكتم من علمي جواهره . . . كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا

وقد تقدم في هذا أبو حسن . . . إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا

فرب جوهر علم لو أبوح به . . . لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال مسلمون دمي . . . يرون أقبح ما يأتونه حسنا

/ قالوا : إنه رضي الله تعالى عنه عنى بهذا الجوهر الذي لو باح به لقيل له : أنت ممن يعبد الوثن علم الوحدة إذ منه يعلم أن الوثن وكذا غيره مظهر له جل وعلا وليس في الدار غيره ديار ، وقد مر عن قرب ما نقل عن الحلاج ومثله كثير للشيخ الأكبر قدس سره ولغيره عرباً وعجماً وهو عفا الله تعالى عنه قد فتح باباً في هذا المطلب لا يسد إلى أن يأتي أمر الله عز وجل وكأنه أوصى إليه بأن يبوح وينثر هاتيك الجواهر بين الأصاغر والأكابر كما أوصى إلى الحسنين بأن يكتما من ذلك ما علما وفي بعض كتبه قدس سره ما هو صريح في أنه مأمور فإن صح ذلك فهو معذور ، وأنا لا أرى عذراً لمن يقفو أثره في المقال مع مباينته له في الحال فإن هذا المطلب أجل من أن يحصل لغريق الشهوات وأسير المؤلوفات ورهين العادات ولله تعالى در من قال :

تقول نساء الحي تطمع أن ترى . . . محاسن ليلى مت بداء المطامع

وكيف ترى ليلى بعين ترى بها . . . سواها وما طهرتها بالمدامع

وتطمع منها بالحديث وقد جرى . . . حديث سواها في خروق المسامع

ولا يخفى أنه على تأويل الصوفية هذه الآية لا يكون قوله تعالى : { وبالوالدين إحسانا } [ الإسراء : 23 ] داخلاً فيما قضى إذ لا يسعهم أن يقولوا إن كل أحد محسن بوالديه من حيث يدري ومن حيث لا ، ويفهم من كلام بعض المتصوفة أن هذا إيصاء بالإحسان إلى الشيخ أيضاً ، وعليه فيحتمل أن يكون تثنية الوالدين كما في قولهم : القلم أحد اللسانين