روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّكَ لَن تَخۡرِقَ ٱلۡأَرۡضَ وَلَن تَبۡلُغَ ٱلۡجِبَالَ طُولٗا} (37)

{ وَلاَ تَمْشِ فِى الآرض مَرَحًا } أي فخراً وكبراً قاله قتادة ، وقال الرغب : المرح شدة الفرح والتوسع فيه والأول أنسب ، وهو مصدر وقع موقع الحال والكلام في مثله إذا وقع حالاً أو خبراً أو صفة شائع ، وجوز أن يكون منصوباً على المصدرية لفعل محذوف أي تمرح مرحاً وأن يكون مفعولاً له أي لأجل المرح ، وقرىء { مَرَحاً } بكسر الراء عن أنه صفة مسبهة ونصبه على الحالية لا غير ، قيل وهذه القراءة باعتبار الحكم أبلغ من قراءة المصدر المفيد للمبالغة بجعله عين المرح نظير ما قيل في زيد عدل لأن الوصف واقع في حيز النهي الذي هو في معني النفي ونفي أصل الاتصاف أبلغ من نفي زيادته ومبالغته لأنه ربما يشعر ببقاء أصله في الجملة ، وجعل المبالغة راجعة إلى النفي دون المنفى كما قيل في قوله تعالى : { وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] بعيدهنا ، والقول بأن الصفة المشبهة تدل على الثبوت فلا يقتضي نفي ذلك نفي أصله كما قيل في المصدر مغالطة نشأت من عدم معرفة معنى الثبوت في الصفة فإن المراد به أنه لا تدل على تجدد وحدوث لا انها تدل على الددوام . والأخفش فضل القراءة بالمصدر لما فيه من التأكيد ولم ينظر إلى أن ذلك في الإثبات لا في النفي وأما في حكمه . وأورد على ما قيل أن فيه تفضيل القراءة الشاذة على المتواترة وهو كما ترى .

ولذا فضل بعضهم القراءة بالمصدر كالأخفش وجعل المبالغة المستفادة منه راجعة إلى النهي ومنع كون ذلك بعيداً ، وقيل إذا جعل التقدير في المتواترة ذا مرح تتحد مع الشاذة . وتعقب بان ذا مرح أبلغ من مرحا صفة لما فيه من الدلالة على أنه صاحب مرح وملازم له كانه مالك إياه وفيه توقف كما لا يخفى ، والتقييد بالآرض لا يصح أن يقال للاحتراز عن المشي في الهواء أو على الماء لأن هذا خارق ولا يحترز عنه بل للتذكير بالمبدأ والمعاد وهو أردع عن المشي مشية الفاخر المتكبر وادعى لقبول الموعظة كأنه قيل : لا تمش فيما هو عنصرك الغالب عليك الذي خلقت منه وإليه تعود والذي قد ضم من أمثالك كثيراً مشية الفاخر المتكبر ، وقيل للتنصيص على أن النهي عن المشي مرحاً في سائر البقع والأماكن لا يختص به أرض دون أرض ، والأول ألطف .

{ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الآرض } تعليل للنهي وقيه تهكم بالمختال أي إنك لن تقدر أن تجعل فيها خرقاً بدوسك وشدة وطاتك { وَلَن تَبْلُغَ الجبال } التي عليها { طُولاً } بتعاظمك ومدقامتك فاين أنت والتكبر عليها إذا التكبر إنما يكون بكثرة القوم وعظم الجثة وكلاهما مفقود فيك أوانك لن تقدر على ذلك فانت أضعف من كل واحد من هذين الجمادين فكيف يليق بك التكبر ، وقال بعض المحققين : مآل النهي والتعليل لا تفعل ذلك فإنه لا جدوى فيه وهو وجه حسن ، ونصب { طُولاً } على أنه تمييز ، وجوز أن يكون مفعولاً له ، وقيل : يشير كلام بعضهم إلى أنه منصوب على نزع الخافض وهو بمعنى التطاول أي لن تبلغ الجبال بتطاولك ولا يخفى بعده ، وإيثار الاظهار على الإضمار حيث لم يقل لن تخرقها لزيادة الإيقاظ والتقريع ، ثم إن الاختيال في المشي كبيرة كاتدل عليه الأحاديث الصحيحة وهذا فيما عدا بين الصفين أما بينهما فهو مباح لخبر صح فيه ، ويكفي ما في الآية من التهكم والتقريع زاجراً لمن اعتاده حيث لا يباح ككثير من الناس اليوم .

وفي الانتصاف قد حفظ الله تعالى عوام زماننا من هذه المشية وتورط قراؤنا وفقهاؤنا بينا أحدهم قد عرف مسألتين أو أجلس بين يديه طالبين أو نال طرفا من رياسة الدنيا إذ هو يمشي خيلاء ولا يرى أنه يطاول الجبال ولكن يرى أنه يحك بيافوخه عنان السماء كأنهم على هذه الآية لا يمرون أو يمرون عليها وهم عنها معرضون اه .

وإذا كان هذا حال قراء زمانه وفقهائه فماذا أقول أنا في قراء زماني وفقهائهم سوى لا كثر الله تعالى أمثالهم ولا ابتلانا بشيء من أفعالهم وجعلها أفعى لهم .