اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّكَ لَن تَخۡرِقَ ٱلۡأَرۡضَ وَلَن تَبۡلُغَ ٱلۡجِبَالَ طُولٗا} (37)

وهذا هو النهي الثاني .

قوله تعالى : " مَرَحاً " : العامة على فتحِ الراء ، وفيه أوجه :

أحدها : أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال ، أي : مرحاً بكسر الراء ، ويدل عليه قراءة{[20427]} بعضهم فيما حكاه يعقُوب " مَرِحاً " بالكسرِ .

قال الزجاج : " مرَحاً " مصدر ، ومرِحاً : اسم الفاعل ، وكلاهما جائز ، إلا أن المصدر هنا أحسن وأوكد ، تقول : جاء زيد ركضاً وراكضاً ، وآكد ؛ لأنه يدل على توكيد الفعل .

الثاني : أنه على حذف مضافٍ ، أي : ذا مرحٍ .

الثالث : أنه مفعولٌ من أجله .

والمَرحُ : شدَّة السرورِ والفرح ؛ مَرِحَ يمْرحُ مرحاً ، فهو مَرحٌ ؛ كفَرِحَ يَفْرحُ فرحاً ، فهو فَرِحٌ .

قوله : { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً } الآية .

قرأ أبو الجرَّاح " لن تَخرُق " بضم الراء ، وأنكرها أبو حاتم وقال : لا نعرفها لغة البتَّة .

والمراد من الخرقِ ها هنا نقب الأرض ، وذكروا فيه وجوهاً :

الأول : أنَّ الشيء إنما يتمُّ بالارتفاع والانخفاض ، فكأنه قال إنَّك حال الانخفاض لا تقدر على خرق الأرض ونقبها ، وحال الارتفاع لا تقدر على أن تصل إلى رءوس الجبال ، والمعنى : أن الإنسان لا ينال بكبره وبطره شيئاً ، كمن يريد خرق الأرض ، ومطاولة الجبال لا يحصل على شيء .

والمراد التنبيهُ على كونه ضعيفاً عاجزاً ، فلا يليقُ به التكبُّر .

الثاني : أنَّ تحتك الأرض التي لا تقدر على خرقها ، وفوقك الجبال التي لا تقدر على الوصول إليها ، فأنت محاطٌ بك من فوقك ، ومن تحتك بنوعين من الجماد ، وأنت أضعف منهما بكثيرٍ ، والضعيف المحصور لا يليق به التكبُّر ، فكأنه قيل له : تواضع ، ولا تتكبَّر ؛ فإنَّك خلقٌ ضعيفٌ من خلق الله ، محصورٌ بين حجارةٍ وترابٍ ، فلا تفعل فعل القويِّ المقتدر .

الثالث : أنَّ من يمشي مختالاً يمشي مرَّة على عقبيه ، ومرَّة على صدور قدميه ، فقيل له : إنَّك لن تنقب الأرض ، إن مشيت على عقبيك ، ولن تبلغ الجبال طولاً ، إن مشيت على صدور قدميك .

قال عليٌّ - كرَّم الله وجهه- : كَان رسُول الله صلى الله عليه وسلم إذا مَشَى تَكَفَّأ تَكفُّؤاً ؛ كأنَّما ينحطُّ من صَبَبٍ{[20428]} .

وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال : " ما رأيْتُ شَيْئاً أحْسنَ من رسُول الله صلى الله عليه وسلم كأنَّ الشَّمسَ تَجْري في وجْههِ ، وما رأيتُ أحداً أسرعَ مِشْيةً من رسُول الله صلى الله عليه وسلم كَأنَّما الأرضُ تطوى له ، إنَّا لنَجْهدُ أنْفُسنَا وهُو غَيْرُ مُكْترِثٍ " {[20429]} .

قوله تعالى : " طُولاً " يجوز أن يكون حالاً من فاعل " تَبلُغ " أو من مفعوله ، أو مصدراً من معنى " تبلغ " أو تمييزاً ، أو مفعولاً له ، وهذان ضعيفان جدًّا ؛ لعدمِ المعنى .


[20427]:نسبها في الشواذ 76 إلى يحيي بن يعمر، وينظر: القرطبي 10/170، والكشاف 2/667، والبحر 6/34، والدر المصون 4/391.
[20428]:أخرجه الترمذي (5/559) كتاب المناقب: باب ما جاء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم حديث (3637) وفي الشمائل رقم (5،6) وأحمد (1/96، 127) وأبو الشيخ ص (94) والحاكم (2/606) وصححه ووافقه الذهبي والبيهقي في "الدلائل" (1/268 ـ 269) والبغوي في "شرح السنة" (7/ 62 ـ 63) من حديث علي بن أبي طالب. وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.
[20429]:أخرجه الترمذي رقم (3650) وفي "الشمائل" (ص 112) وأحمد (2/350، 380) وابن سعد (1/415) وأبو الشيخ (ص 248) من حديث أبي هريرة . وقال الترمذي : هذا حديث غريب.