روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{فَأَجۡمِعُواْ كَيۡدَكُمۡ ثُمَّ ٱئۡتُواْ صَفّٗاۚ وَقَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡيَوۡمَ مَنِ ٱسۡتَعۡلَىٰ} (64)

{ فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } تصريح بالمطلوب إثر تمهيد المقدمات . والفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين يريدان بكم ما يريدان فأزمعوا كيدكم واجعلوه مجمعاً عليه بحيث لا يتخلف عنه منكم أحد وارموا عن قوس واحدة .

وقرأ الزهري . وابن محيصن . وأبو عمرو . ويعقوب في رواية . وأبو حاتم { فَأَجْمِعُواْ } بوصل الهمزة وفتح الميم من الجمع . ويعضده قوله تعالى : { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } [ طه : 60 ] وفي الفرق بين جمع وأجمع كلام للعلماء . قال ابن هشام : إن أجمع يتعلق بالمعاني فقط وجمع مشترك بين المعاني والذوات . وفي عمدة الحفاظ حكاية القول بأن أجمع أكثر ما يقال في المعاني وجمع في الأعيان فيقال : أجمعت أمري وجمعت قومي وقد يقال بالعكس .

وفي المحكم أنه يقال : جمع الشيء عن تفرقة يجمعه جمعاً وأجمعه فلم يفرق بينهما ، وقال الفراء : إذا أردت جمع المتفرق قلت : جمعت القوم فهم مجموعون وإذا أردت جمع المال قلت جمعت بالتشديد ويجوز تخفيفه والإجماع الأحكام والعزيمة على الشيء ويتعدى بنفسه وبعلى تقول : أجمعت الخروج وأجمعت على الخروج ، وقال الأصمعي : يقال جمعت الشيء إذا جئت به من هنا ومن هنا وأجمعته إذا صيرته جميعاً ، وقال أبو الهيثم : أجمع أمره أي جعله جميعاً وعزم عليه بعد ما كان متفرقاً وتفرقته أن يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا والجمع أن يجمع شيئاً إلى شيء ، وقال الفراء : في هذه الآية على القراءة الأولى أي لا تدعوا شيئاً من كيدكم إلا جئتم به { ثُمَّ ائتوا صَفّاً } أي مصطفين أمروا بذلك لأن أهيب في صدور الرائين وأدخل في استجلاب الرهبة من المشاهدين . قيل : كانوا سبعين ألفاً مع كل منهم حبل وعصا وأقبلوا عليه عليه السلام إقبالة واحدة ، وقيل : كانوا اثنين وسبعين ساحراً اثنان من القبط والباقي من بني إسرائيل ، وقيل : تسعمائة ثلاثمائة من الفرس وثلاثمائة من الروم وثلاثمائة من الإسكندرية ، وقيل : خمسة عشر ألفاً ، وقيل بضعة وثلاثين ألفاً ، ولا يخفى حال الإخبار في ذلك والقلب لا يميل إلى المبالغة والله تعالى أعلم ، ولعل الموعد كان مكاناً متسعاً خاطبهم موسى عليه السلام بما ذكر في قطر من أقطاره وتنازعوا أمرهم في قطر آخر منه ثم أمروا أن يأتوا وسطه على الحال المذكورة ، وقد فسر أبو عبيدة الصف بالمكان الذي يجتمعون فيه لعيدهم وصلواتهم وفيه بعد ، وكأنه علم لموضع معين من مكان يوم الزينة ، وعلى هذا التفسير يكون { صَفَّا } مفعولاً به .

وقرأ شبل بن عباد . وابن كثير في رواية شبل عنه { ثُمَّ } بكسر الميم وإبدال الهمزة ياء . قال أبو علي : وهذا غلط ولا وجه لكسر الميم من ثم ، وقال صاحب اللوامح : إن ذلك لالتقاء الساكنين كما كانت الفتحة في قراءة العامة كذلك { صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى } اعتراض تذييلي من قبلهم مؤكد لما قبله من الأمرين أي قد فاز بالمطلوب من غلب .

فاستفعل بمعنى فعل كما في «الصحاح » أو من طلب العلو والغلب وسعى سعيه على ما في «البحر » . فاستفعل على بابه ، ولعله أبلغ في التحريض حيث جعلوا الفوز لمن طلب الغلب فضلاً عمن غلب بالفعل وأرادوا بالمطلوب ما وعدهم فرعون من الأجر والتقريب حسبما نطق به قوله تعالى : { وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين } [ الأعراف : 114 ] وبمن استعلى أنفسهم جميعاً على طريقة قولهم { بعزة فرعون إنا لَنَحْنُ الغالبون } [ الشعراء : 44 ] أو من استعلى منهم حثاً على بذل المجهود في المغالبة .

وقال الراغب : الاستعلاء قد يكون لطلب العلو المذوم وقد يكون لغيره وهو ههنا يحتملهما فلهذا جاز أن يكون هذا الكلام محكياً عن هؤلاء القائلين للتحريض على إجماعهم واهتمامهم وأن يكون من كلام الله عز وجل فالمستعلى موسى . وهارون عليهما السلام ولا تحريض فيه ، وأنت تعلم أن الظاهر هو الأول .