روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَٰلٗا طَيِّبٗاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ} (88)

{ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حلالا طَيّباً } أي كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله تعالى فحلالاً مفعول به لكلوا و { مِمَّا رَزَقَكُمُ } إما حال منه وقد كان في الأصل صفة له إلا أن صفة النكرة إذا قدمت صارت حالاً أو متعلق بكلوا و ( من ) ابتدائية . ويحتمل أن يكون في موضع المفعول لكلوا على معنى أنه صفة مفعول له قائمة مقامه أي شيئاً مما رزقكم أو بجعله نفسه مفعولاً بتأويل بعض إلا أن في هذا تكلفاً . و { حلالا } حال من الموضول أو من عائده المحذوف أو صفة لمصدر محذوف أي أكلاً حلالاً . وعلى الوجوه كلها الآية دليل لنا في شمول الرزق للحلال والحرام إذ لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة سوى التأكيد وهو خلاف الظاهر في مثل ذلك .

{ واتقوا الله الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } استدعاء إلى التقوى وامتثال الوصية بوجه حسن . والآية ظاهرة في أن أكل اللذائذ لا ينافي التقوى ، وقد أكل صلى الله عليه وسلم ثريد اللحم ومدحه وكان يحب الحلوى . وقد فصلت الأخبار ما كان يأكله عليه الصلاة والسلام وأواني الكتب ملأى من ذلك . وروي أن الحسن كان يأكل الفالوذج فدخل عليه فرقد السنجي فقال : يا فرقد ما تقول في هذا ؟ فقال : لا آكله ولا أحب أكله فأقبل الحسن على غيره كالمتعجب وقال : لعاب النحل بلعاب البر مع سمن البقر هل يعيبه مسلم ، وذكر الطبرسي أن فيها دلالة على النهي عن الترهب وترك النكاح وقد جاء في غير ما خبر أنه صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله تعالى لم يبعثني بالرهبانية » وقال عليه الصلاة والسلام في خبر طويل : «شراركم عزابكم وأراذل موتاكم عزابكم » وعن أنس قال : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالباءة وينهانا عن التبتل نهياً شديداً » . وعن أبي نجيح قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من كان موسراً لأن ينكح فلم ينكح فليس مني » إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة .

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } أي اجعلوا ما من الله تعالى به عليكم من علوم التجليات ومواهب الأحوال والمقامات غذاء قلوبكم { حلالا طَيّباً واتقوا الله } [ المائدة : 88 ] في حصول ذلك لكم بأن تردوها منه وله ، وجعل غير واحد هذا خطاباً للواصلين من أرباب السلوك حيث أرادوا الرجوع إلى حال أهل البدايات من المجاهدات فنهوا عن ذلك وأمروا بأكل الحلال الطيب ، وفسروا الحلال بما وصل إلى المعارف من خزائن الغيب بلا كلفة ، والطيب ما يقوي القلب في شوق الله تعالى وذكر جلاله ، وقيل : الحلال الطيب ما يأكل على شهود وإلا فعلى ذكر ، فإن الأكل على الغفلة حرام في شرع السلوك ، وقال آخرون : الحلال الطيب هو الذي يراه العارف في خزانة القدر فيأخذه منها بوصف الرضا والتسليم ، والحرام ما قدر لغيره وهو يجتهد في طلبه لنفسه