فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَٰلٗا طَيِّبٗاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ} (88)

87

و{ كلوا } أمر إباحة وتحليل ، { مما رزقكم الله } في إدخال { من } التبعيضية إرشاد إلى الاقتصاد والاقتصار في الأكل على البعض ، وصرف الباقي إلى المحتاجين-( {[1855]} ) . ونقل القرطبي ما حاصله : في هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها رد على غلاة المتزهدين ، وعلى أهل البطالة من المتصوفين ، إذ كل فريق منهم قد عدل عن طريقه ، وحاد عن تحقيقه ؛ قال الطبري( {[1856]} ) : لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح ، . . . ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على ابن مظعون ، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده ، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه ، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنه لأمته ، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون ، إذ كان خير الهدى هدى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ . . . أخرج الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في مسنده قال : حدثنا أبو المغيرة قال : حدثنا معان بن رفاعة ، قال : حدثني علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه ؛ قال : فمر رجل بغار فيه شيء من الماء فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه من ماء ، ويصيب ما حوله من البقل ويتخلى عن الدنيا ؛ قال : لو إني أتيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك ، فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل ؛ فأتاه فقال : يا نبي الله إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل ، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى عن الدنيا ؛ قال : فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " إني لم أبعث باليهودية ولا النصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة " ؛ قال الطبري : فإن ظن ظان أن الفضل في غير الذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس ، وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة فقد ظن خطأ ؛ وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها ، ولا شيء أضر للجسم من المطاعم الرديئة لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببا إلى طاعته ؛ والأكل في هذه الآية عبارة عن التمتع بالأكل والشرب واللباس والركوب ونحو ذلك ؛ { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } خافوا ربكم الذي تستيقنون بحكمته أن تعتدوا في حدوده فتحرموا على أنفسكم ما أحل سبحانه لكم من الطيبات ، أو تحلوا لأنفسكم ما لم يأذن به ، فإن التصديق الجازم واليقين الراسخ يُلزمان أهل الإيمان سلوك سبيل الطاعة والقصد ، دون تفريط أو غلو .

أخرج الإمام مسلم( {[1857]} ) في صحيحه عن أنس أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر ؛ فقال بعضهم : لا أتزوج النساء ؛ وقال بعضهم : لا آكل اللحم ؛ وقال بعضهم : لا أنام على الفراش ، فحمد الله وأثنى عليه فقال : " ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " ؛ وأخرجه البخاري في صحيحه( {[1858]} ) عن أنس أيضا ، ولفظه قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته : فلما أخبروا كأنهم تقالوها- فقالو : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قد غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر ؛ فقال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا ؛ وقال آخر : أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر ؛ وقال آخر : أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبدا ؛ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " .


[1855]:من تفسير غرائب القرآن.
[1856]:أورد الطبري- رحمه الله تعالى- في سبب نزول هذه الآيات ست عشرة رواية، كلها لم تبلغ مبلغ الصحيح.
[1857]:كتاب النكاح؛ باب: استحباب النكاح لمن تاقت إليه نفسه ووجد مؤنة.
[1858]:في كتاب النكاح.