محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَٰلٗا طَيِّبٗاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ} (88)

[ 88 ] { وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ( 77 ) } .

{ وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا } أي : كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله . فيكون { حلالا } مفعول { كلوا } و { مما } حال منه ، أو متعلق ب { كلوا } ، أو هو المفعول و { حلالا } من { ما } أو من عائده المحذوف ، أو صفة لمصدر محذوف ، أي :/ أكلا حلالا . وقوله تعالى : { واتقوا الله } تأكيد للتوصية بما أمر به ، وزاده تأكيدا بقوله : { الذي أنتم به مؤمنون } لأن الإيمان به يوجب التقوى ، في الانتهاء إلى ما أمر به وعما نهى عنه .

قال المهايمي : مقتضى إيمانكم أن لا تغيروا شيئا من أحكام دينكم ، وأن لا تعارضوا في أحكامه ولو بكراهة من أنفسكم ، وأن تتقوه في وضع قواعد تخالف قواعد الشرع ، بل غاية ما يجوز أخذ معان من علم الشريعة مؤكدة لمقتضاه .

تنبيهات

الأول : فيما روي في سبب نزولها :

أخرج الترمذي{[3201]} عن ابن عباس رضي الله عنهما : " أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرمت علي اللحم . فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا . . . } الآية " .

وروى ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : " نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسح في الأرض كما تفعل الرهبان . فبلغ ذلك النبي ، فأرسل إليهم ، فذكر لهم ذلك ، فقالوا : نعم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأنام ، وأنكح النساء . فمن أخذ بسنتي فهو مني ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني " . وروى ابن مردويه نحوه .

وفي ( الصحيحين ) {[3202]} من حديث عائشة رضي الله عنها ؛ " أن ناسا من أصحاب/ رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في الشر ؟ فقال بعضهم : لا آكل اللحم . وقال بعضهم : لا أتزوج النساء . وقال بعضهم : لا أنام على فراش . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا ؟ لكني أصوم وأفطر ، وأنام وأقوم ، وآكل اللحم . وأتزوج النساء . فمن رغب عن سنتي فليس مني " .

وروى ابن أبي حاتم ؛ " أن عبد الله بن مسعود جاءه معقل بن مقرن فقال : إني حرمت فراشي . فتلا عليه هذه الآية " .

وأخرج أيضا عن مسروق قال : " كنا عند عبد الله بن مسعود . فجيء بضرع فتنحى رجل . فقال عبد الله : فقال : إني حرمت أن آكله . فقال عبد الله : اذن فاطعم وكفر عن يمينك . وتلا هذه الآية " . ورواه الحاكم أيضا .

/ الثاني : قال بعض الزيدية : ثمرة الآية النهي عن تحريم الطيبات من الحلال . وذكر الحاكم : أن هذا النهي يحتمل وجوها لا مانع من الحمل على جميعها : أحدها لا تعتقدوا التحريم . ومنها : لا تحرموا على غيركم بالفتوى والحكم . ومنها : لا تجروه مجرى المحرمات في شدة الاجتناب . ومنها : لا تلتزموا تحريمه بنذر أو غيره .

وقال القاضي : لا تحرموا الحلال بفعل يصدر منكم ، كالبيعات الربوية وخلط الحلال بالمغصوب والطاهر بالنجس .

ثم قال : ويتعلق بهذا أمران : الأول إذا حرم الحلال ، هل يجب عليه الحنث والرجوع ؟ قلنا : ظاهر الآية يدل على ذلك ، ويلزم مع ذلك التوبة . الأمر الثاني : هل يلزمه في ذلك كفارة ؟ قلنا : هذه الآية قد يستدل بها على اللزوم ، لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه . وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء . انتهى .

وقال ابن كثير : ذهب الشافعي إلى أنه من حرم مأكلا أو ملبسا أو شيئا ، ما عدا النساء ، أنه لا يحرم عليه أيضا . لإطلاق هذه الآية . ولأن الذي حرم اللحم على نفسه- كما في الحديث المتقدم- لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة .

وذهب آخرون- منهم الإمام أحمد- إلى أن من حرم شيئا- مما ذكر- فإنه يجب عليه كفارة يمين ، كما إذا التزم تركه باليمين . فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزاما بما التزمه ، كما أفتى بذلك ابن عباس ، وكما في قوله تعالى : { يا أيها الني لم تحرم ما أحل الله لك ، تبتغي مرضات أزواجك ، والله غفور رحيم }{[3203]} . ثم قال : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم . . . } {[3204]} الآية ، وكذلك هنا . لما ذكر هذا الحكم عقبه بالآية المبينة لتكفير اليمين ، فدل على أن هذا منزل منزلة اليمين في اقتضاء التكفير . والله أعلم .

/ وفي ( زاد المعاد ) لابن القيم فصل مهم في حكم من حرم أمته أو زوجته أو متاعه . تنبغي مراجعته .

الثالث : هذه الآية أصل في ترك التنطع والتشدد في التعبد- كذا في ( الإكليل ) .

قال ابن جرير : لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء ، مما أحل الله لعباده المؤمنين ، على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح ، ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون . فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده . وأن الفضل والبر إنما هو فعل ما ندب الله إليه عباده ، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنه لأمته ، واتبعه على مناهجه الأئمة الراشدون . إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . . . فإذا كان كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان ، إذا قدر على لباس ذلك من حله . وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة إلى النساء . . قال : فإن ظن ظان أن الفضل في غير الذي قلنا- لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على التنفس وصرف ما فضل منهما من القيمة إلى أهل الحاجة- فقد ظن خطأ . وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها ، ولا شيء أضر على الجسم من المطاعم الرديئة . لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببا إلى طاعته . . انتهى .

وللرازي هنا مبحث جيد في حكمة هذا النهي ، مؤيد لما ذكر . فليراجع فإنه نفيس .

وقد أخرج الترمذي{[3205]} عن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل " . وله {[3206]}عن أبي هريرة قال : " أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم . فرد إليه الذراع- وكانت تعجبه- / فنهش منها " . قالت عائشة{[3207]} : " ما كان الذراع أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن كان لا يجد اللحم إلا غبا ، وكان يعجل إليه الذراع لأنه أعجلها نضجا " . أخرجه الترمذي .

وحكى الزمخشري عن الحسن أنه دعي إلى طعام ومعه فرقد السبخي وأصحابه . فقعدوا على المائدة – وعليها الألوان من الدجاج المسمن والفالوذ وغير ذلك – فاعتزل فرقد ناحية ، فسأل الحسن : أهو صائم ؟ قالوا : لا ولكنه يكره هذه الألوان ، فأقبل الحسن عليه وقال :يا فرقد أترى لعاب النحل ، بلباب البر ، بخالص السمن ، يعيبه مسلم ؟ .

وعنه : أنه قيل له : فلان لا يأكل الفالوذ ويقول : لا أؤدي شكره قال : أفيشرب الماء البارد ؟ قالوا نعم ، قال : إنه جاهل . إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذ .

وعنه : أن الله تعالى أدب عباده فأحسن أدبهم . قال الله تعالى{[3208]} : { لينفق ذو سعة من سعته } . ما عاب الله قوما وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا . . ولا عذر قوما زواها عنهم فعصوه .

الرابع : قال الرازي : لم يقل تعالى : كلوا ما رزقكم ، ولكن قال : { مما رزقكم الله } وكلمة { من } للتبعيض . فكأنه قال : اقتصروا في الأكل على البعض واصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات ، لأنه إرشاد إلى ترك الإسراف كما قال : { ولا تسرفوا } -


[3201]:- أخرجه الترمذي في: 44- كتاب التفسير، 5- سورة المائدة، 14- حدثنا عمرو بن علي أبو حفص الفلاس.
[3202]:- الحديث عن أنس. أخرجه البخاري في: 67- كتاب النكاح، 1- باب الترغيب في النكاح، حديث 2099 ونصه: عن حميد بن أبي حميد، الطويل؛ أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم. فلما أخبروا كأنهم تقالوها. فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله ! إني لأخشاكم لله وأتقاكم له. لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني". وأخرجه عن أنس، مسلم أيضا في: 16- كتاب النكاح، حديث 5 (طبعتنا).
[3203]:- [66/ التحريم/ 1].
[3204]:- [66/ التحريم/ 2] {... والله مولاكم وهو العليم الحكيم (2)}.
[3205]:- أخرجه الترمذي في: 23- كتاب الأطعمة، 29- باب ما جاء في حب النبي صلى الله عليه وسلم الحلواء والعسل.
[3206]:- أخرجه الترمذي في: 23- كتاب الأطعمة، 34- باب ما جاء في أي اللحم كان أحب الى النبي صلى الله عليه وسلم.
[3207]:- أخرجه الترمذي في: 23- كتاب الأطعمة، 34- باب ما جاء في أي اللحم كان أحب الى النبي صلى الله عليه وسلم
[3208]:- [65/ الطلاق/ 7] ونصها: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ماءاتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا (7)}.