التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{قُلۡ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا عَلَيۡهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيۡكُم مَّا حُمِّلۡتُمۡۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهۡتَدُواْۚ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ} (54)

تلقين آخر للرسول عليه الصلاة والسلام بما يَرُدّ بهتانهم بقلة الاكتراث بمواعيدهم الكاذبة وأن يقتصروا من الطاعة على طاعة الله ورسوله فيما كلفهم دون ما تبرعوا به كذباً ، ويختلف معنى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } بين معاني الأمر بإيجاد الطاعة المفقودة أو إيهام طلب الدوام على الطاعة على حسب زعمهم .

وأعيد الأمر بالقول للاهتمام بهذا القول فيقع كلاماً مستقلاً غير معطوف .

وقوله : { فإن تولوا } يجوز أن يكون تفريعاً على فعل { أطيعوا } فيكونّ فعلُ { تولوا } من جملة ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم ويكون فعلاً مضارعاً بتاء الخطاب . وأصله : تَتَولوا بتاءين حذفت منهما تاء الخطاب للتخفيف وهو حذف كثير في الاستعمال . والكلام تبليغ عن الله تعالى إليهم ، فيكون ضميراً ف { عَلَيْه ما حُمِّلَ } عائدين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .

ويجوز أن يكون تفريعاً على فعل { قل } أيْ فإذا قلت ذلك فَتَوَلَّوْا ولم يطيعوا الخ ، فيكون فعل { تولوا } ماضياً بتاء واحدة مُواجَهاً به النبي صلى الله عليه وسلم أي فإن تولوا ولم يطيعوا فإنما عليك ما حُمِّلْتَ من التبليغ وعليهم ما حُمِّلوا من تَبِعَة التكليف . كمعنى قوله تعالى : { فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين } في سورة النحل ( 82 ) فيكون في ضمائر فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم } التفاتٌ . وأصل الكلام : فإنما عليك ما حُملتَ وعليهم ما حُمِّلوا . والالتفات محسن لا يحتاج إلى نكتة .

وبهذين الوجهين تكون الآية مفيدة معنيين : معنى من تعلق خطاب الله تعالى بهم وهو تعريض بتهديد ووعيد ، ومعنى من موعظة النبي صلى الله عليه وسلم إيَّاهم وموادعة لهم . وهذا كله تبكيت لهم ليعلموا أنهم لا يضرون بتولّيهم إلا أنفسهم . ونظيره قوله في سورة آل عمران ( 23 32 ) : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً } من الكتاب ( هم اليهود ) يُدعَوْن إلى كتاب الله } إلى قوله : { قل أطيعوا الله والرسول فإن تَولوا فإن الله لا يحب الكافرين } .

واعلم أن هذين الاعتبارين لا يتأتيان في المواضع التي يقع فيها الفعل المضارع المفتتح بتاءين في سياق النهي نحو قوله تعالى : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } [ النساء : 4 ] وقوله : { ولا تَيمموا الخبيثَ منه تنفقون } [ البقرة : 267 ] وقوله : { ولا تَولوا عنه وأنتم تسمعون } في سورة الأنفال ( 20 ) ، وأما قوله تعالى في سورة القتال ( 38 ) { وإن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم } فثبتت فيه التاءان لأن الكلام فيه موجه إلى المؤمنين فلم يكن فيه ما يقتضي نسج نظمه بما يصلح لإفادة المعنيين المذكورين في سورة النور وفي سورة آل عمران .

والبلاغ : اسم مصدر بمعنى التبليغ كالأداء بمعنى التأدية . ومعنى كونه مبيناً أنه فصيح واضح .

وجملة : { وإن تطيعوه تهتدوا } إرداف الترهيب الذي تضمنه قوله : { وعليكم ما حملتم } بالترغيب في الطاعة استقصاء في الدعوة إلى الرشد .

وجملة { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } بيان لإبهام قوله : { ما حمل } .