التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَإِذۡ قَالَ لُقۡمَٰنُ لِٱبۡنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَٰبُنَيَّ لَا تُشۡرِكۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٞ} (13)

عطف على جملة { ءاتينا لقمان الحكمة } [ لقمان : 12 ] لأن الواو نائبة مناب الفعل فمضمون هذه الجملة يفسر بعض الحكمة التي أوتيها لقمان . والتقدير : وآتيناه الحكمة إذْ قال لابنه فهو في وقت قوله ذلك لابنه قد أوتي حكمة فكان ذلك القول من الحكمة لا محالة ، وكل حالة تصدر عنه فيها حكمة هو فيها قد أوتي حكمة .

و { إذ } ظرف متعلق بالفعل المقدّر الذي دلت عليه واو العطف ، أي والتقدير : وآتيناه الحكمة إذ قال لابنه . وهذا انتقال من وصفه بحكمة الاهتداء إلى وصفه بحكمة الهدى والإرشاد . ويجوز أن يكون { إذْ قَالَ } ظرفاً متعلقاً بفعل ( اذكر ) محذوفاً .

وفائدة ذكر الحال بقوله { وهو يعظه } الإشارة إلى أن قوله هذا كان لتلبس ابنه بالإشراك ، وقد قال جمهور المفسرين : إن ابن لقمان كان مُشركاً فلم يزل لقمان يعظه حتى آمن بالله وحده ، فإن الوعظ زجرٌ مقترن بتخويف قال تعالى { فأعْرِضْ عنهم وعِظهم وقُل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً } [ النساء : 63 ] ويعرف المزجور عنه بمتعلق فعل الموعظة فتعين أن الزجر هنا عن الإشراك بالله . ولعل ابن لقمان كان يدين بدين قومه من السودان فلما فتح الله على لقمان بالحكمة والتوحيد أبَى ابنه متابعته فأخذ يعظه حتى دان بالتوحيد ، وليس استيطان لقمان بمدينة داود مقتضياً أن تكون عائلته تدين بدين اليهودية .

وأصل النهي عن الشيء أن يكون حين التلبس بالشيء المنهي عنه أو عند مقاربة التلبس به ، والأصل أن لا ينهى عن شيء منتف عن المنهي . وقد ذكر المفسرون اختلافاً في اسم ابن لقمان فلا داعي إليه . وقد جمع لقمان في هذه الموعظة أصول الشريعة وهي : الاعتقادات ، والأعمال ، وأدب المعاملة ، وأدب النفس .

وافتتاح الموعظة بنداء المخاطب الموعوظ مع أن توجيه الخطاب مغن عن ندائه لحضوره بالخطاب ، فالنداء مستعمل مجازاً في طلب حضور الذهن لوعي الكلام وذلك من الاهتمام بالغرض المسوق له الكلام كما تقدم عند قوله تعالى { يا أبَتِ إني رأيتُ أحَدَ عَشَر كوكباً } [ يوسف : 4 ] وقوله { يا بُني لا تقصص رؤياك } في سورة يوسف ( 5 ) وقوله { إذْ قال الحواريون يا عيسى ابنَ مريم هل يستطيع ربك أن يُنَزّل علينا مائدة من السماء } في سورة العقود ( 112 ) وقوله تعالى { إذ قال لأبيه يا أبت لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسمع ولا يبْصر } في سورة مريم ( 42 ) .

و { بُنَيّ } تصغير ( ابن ) مضافاً إلى ياء المتكلم فلذلك كسرت الياء . وقرأه الجمهور بكسر ياء { بُنَيِّ } مشدّدة . وأصله : يا بُنَيْيي بثلاث ياءات إذ أصله الأصيل يا بُنَيْوِي لأن كلمة ابن واوية اللام الملتزمة حذفها فلما صُغر ردّ إلى أصله ، ثم لما التقت ياء التصغير ساكنة قبل واو الكلمة المتحركة بحركة الإعراب قلبت الواو ياء لتقاربهما وأدغمتا ، ولما نودي وهو مضاف إلى ياء المتكلم حذفت ياء المتكلم لجواز حذفها في النداء وكراهية تكرر الأمثال ، وأشير إلى الياء المحذوفة بإلزامِه الكسرَ في أحوال الإعراب الثلاثة لأن الكسرة دليل على ياء المتكلم .

وتقدم في سورة يوسف . والتصغير فيه لتنزيل المخاطب الكبير منزلة الصغير كناية عن الشفقة به والتحبب له ، وهو في مقام الموعظة والنصيحة إيماء وكناية عن إمحاض النصح وحب الخير ، ففيه حث على الامتثال للموعظة .

ابتدأ لقمان موعظة ابنه بطلب إقلاعه عن الشرك بالله لأن النفس المعرضة للتزكية والكمال يجب أن يقدم لها قبل ذلك تخليتُها عن مبادىء الفساد والضلال ، فإن إصلاح الاعتقاد أصل لإصلاح العمل . وكان أصل فساد الاعتقاد أحد أمرين هما الدُهرية والإشراك ، فكان قوله { لا تشرك بالله } يفيد إثبات وجود إله وإبطال أن يكون له شريك في إلهيته . وقرأ حفص عن عاصم في المواضع الثلاثة في هذه السورة { يا بنيَّ } بفتح الياء مشددة على تقدير : يا بنَيَّا بالألف وهي اللغة الخامسة في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم ثم حذفت الألف واكتفي بالفتحة عنها ، وهذا سماع .

وجملة { إن الشرك لظلم عظيم } تعليل للنهي عنه وتهويل لأمره ، فإنه ظلم لحقوق الخالق ، وظلم المرء لنفسه إذ يضع نفسه في حضيض العبودية لأخس الجمادات ، وظلم لأهل الإيمان الحق إذ يبعث على اضطهادهم وأذاهم ، وظلم لحقائق الأشياء بقلبها وإفساد تعلقها . وهذا من جملة كلام لقمان كما هو ظاهر السياق ، ودل عليه الحديث في « صحيح مسلم » عن عبد الله بن مسعود قال : " لما نزلت { الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } [ الأنعام : 82 ] شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : أينا لا يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه { يا بنيِّ لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم } " . وجوَّز ابن عطية أن تكون جملة { إن الشرك لظلم عظيم } من كلام الله تعالى ، أي : معترضة بين كَلِم لقمان . فقد روي عن ابن مسعود أنهم لما قالوا ذلك أنزل الله تعالى { إن الشرك لظلم عظيم } ، وانظر من روى هذا ومقدار صحته .