الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَإِذۡ قَالَ لُقۡمَٰنُ لِٱبۡنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَٰبُنَيَّ لَا تُشۡرِكۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٞ} (13)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وإذ قال لقمان لابنه}... {وهو يعظه} يعني عز وجل: يؤدبه.

{يا بني لا تشرك بالله} معه غيره.

{إن الشرك لظلم عظيم}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد "إذْ قالَ لُقْمانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيّ لا تُشْرِكْ باللّهِ، إنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ "يقول: لخطأ من القول عظيم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

يحتمل قوله: {إن الشرك لظلم عظيم}] وجوها: أحدها: ظلموا أنفسهم حين وضعوها في غير موضعها، وأوقعوها في المهالك بعد ما صورها الله أحسن تصوير، ومثلها أحسن تمثيل. وأعظم الظلم من عمل، وسعى في إهلاك نفسه.

والثاني: {لظلم عظيم} ظلموا نعم الله حين صرفوا شكرها إلى غير منعمها.

والثالث: {لظلم عظيم} ظلموا ظلما عظيما حين لم يقبلوا شهادة وحدانية الله وألوهيته في ما جعلها في خلقتهم وبنيتهم، إذ جعل في خلقة كل أحد الشهادة على وحدانيته وربوبيته، وذلك أعظم الظلم وأفحشه...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وظاهر قوله {إن الشرك لظلم عظيم} أنه من كلام لقمان، ويحتمل أن يكون خبراً من الله تعالى منقطعاً من كلام لقمان متصلاً به في تأكيد المعنى...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

عطف على معنى ما سبق وتقديره آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكرا في نفسه وحين جعلناه واعظا لغيره وهذا لأن علو مرتبة الإنسان بأن يكون كاملا في نفسه ومكملا لغيره فقوله: {أن اشكر} إشارة إلى الكمال وقوله: {وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه} إشارة إلى التكميل.

وفي هذا لطيفة وهي أن الله ذكر لقمان وشكر سعيه حيث أرشد ابنه ليعلم منه فضيلة النبي عليه السلام الذي أرشد الأجانب والأقارب فإن إرشاد الولد أمر معتاد، وأما تحمل المشقة في تعليم الأباعد فلا.

ثم إنه في الوعظ بدأ بالأهم وهو المنع من الإشراك وقال: {إن الشرك لظلم عظيم}.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان الإنسان لا يعرف حكمة الحكيم إلا بأقواله وأفعاله، ولا صدق الكلام وحكمته إلا بمطابقته للواقع، فكان التقدير: اذكر ما وصفنا به لقمان لتنزل عليه ما تسمع من أحواله وأفعاله في توفية حق الله وحق الخلق الذي هو مدار الحكمة، عطف عليه قوله: {وإذ} أي واذكر بقلبك لتتعظ وبلسانك لتعظ غيرك -بما أنك رسول- ما كان حين {قال لقمان لابنه} ما يدل على شكره في نفسه وامره به لغيره فإنه لا شكر يعدل البراءة من الشرك، وفيه حث على التخلق بما مدح به لقمان بما يحمل على الصبر والشكر والمداومة على كل خير، وعلى تأديب الولد، بسوق الكلام على وجه يدل على تكرير وعظه فقال: {وهو يعظه} أي يوصيه بما ينفعه ويرقق قلبه ويهذب نفسه، ويوجب له الخشية والعدل.

ولما كان أصل توفية حق الحق تصحيح الاعتقاد وإصلاح العمل، وكان الأول أهم، قدمه فقال: {يا بني} فخاطبه بأحب ما يخاطب به، مع إظهار الترحم والتحنن والشفقة، ليكون ذلك أدعى لقبول النصح {لا تشرك} أي لا توقع الشرك لا جليا ولا خفياً، ولما كان في تصغيره الإشفاق عليه، زاد ذلك بإبراز الاسم الأعظم الموجب لاستحضار جميع الجلال، تحقيقاً لمزيد الإشفاق. فقال: {بالله} أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له، ثم علل هذا النهي بقوله: {إن الشرك} اي بنوعيه {لظلم عظيم} أي فهو ضد الحكمة، لأنه وضع الشيء في غير محله، وفي هذا تنبيه لقريش وكل سامع على أن هذه وصية لا يعدل عنها، لأنها من أب حكيم لابن محنو عليه محبوب، وأن آباءهم لو كانوا حكماء ما فعلوا إلا ذلك، لأنه يترتب عليها ما عليه مدار النعم الظاهرة والباطنة الدينية والدنيوية، العاجلة والآجلة، وهو الأمن والهداية...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

تجيء قضية التوحيد في صورة موعظة من لقمان الحكيم لابنه: (وإذ قال لقمان لابنه -وهو يعظه -: يا بني لا تشرك بالله. إن الشرك لظلم عظيم).. وإنها لعظة غير متهمة؛ فما يريد الوالد لولده إلا الخير؛ وما يكون الوالد لولده إلا ناصحا. وهذا لقمان الحكيم ينهى ابنه عن الشرك؛ ويعلل هذا النهي بأن الشرك ظلم عظيم. ويؤكد هذه الحقيقة مرتين. مرة بتقديم النهي وفصل علته. و مرة بإن واللام..

وهذه هي الحقيقة التي يعرضها محمد [صلى الله عليه وسلم] على قومه، فيجادلونه فيها؛ ويشكون في غرضه من وراء عرضها؛ ويخشون أن يكون وراءها انتزاع السلطان منهم والتفضل عليهم! فما القول ولقمان الحكيم يعرضها على ابنه ويأمره بها؟ والنصيحة من الوالد لولده مبرأة من كل شبهة، بعيدة من كل ظنة؟ ألا إنها الحقيقة القديمة التي تجري على لسان كل من آتاه الله الحكمة من الناس؛ يراد بها الخير المحض، ولا يراد بها سواه.. وهذا هو المؤثر النفسي المقصود...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عطف على جملة {ءاتينا لقمان الحكمة} [لقمان: 12] لأن الواو نائبة مناب الفعل فمضمون هذه الجملة يفسر بعض الحكمة التي أوتيها لقمان. والتقدير: وآتيناه الحكمة إذْ قال لابنه فهو في وقت قوله ذلك لابنه قد أوتي حكمة فكان ذلك القول من الحكمة لا محالة، وكل حالة تصدر عنه فيها حكمة هو فيها قد أوتي حكمة.

و {إذ} ظرف متعلق بالفعل المقدّر الذي دلت عليه واو العطف، أي والتقدير: وآتيناه الحكمة إذ قال لابنه. وهذا انتقال من وصفه بحكمة الاهتداء إلى وصفه بحكمة الهدى والإرشاد. ويجوز أن يكون {إذْ قَالَ} ظرفاً متعلقاً بفعل (اذكر) محذوفاً.

وفائدة ذكر الحال بقوله {وهو يعظه} الإشارة إلى أن قوله هذا كان لتلبس ابنه بالإشراك، وقد قال جمهور المفسرين: إن ابن لقمان كان مُشركاً فلم يزل لقمان يعظه حتى آمن بالله وحده، فإن الوعظ زجرٌ مقترن بتخويف قال تعالى {فأعْرِضْ عنهم وعِظهم وقُل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً} [النساء: 63] ويعرف المزجور عنه بمتعلق فعل الموعظة فتعين أن الزجر هنا عن الإشراك بالله...

وأصل النهي عن الشيء أن يكون حين التلبس بالشيء المنهي عنه أو عند مقاربة التلبس به، والأصل أن لا ينهى عن شيء منتف عن المنهي. وقد ذكر المفسرون اختلافاً في اسم ابن لقمان فلا داعي إليه. وقد جمع لقمان في هذه الموعظة أصول الشريعة وهي: الاعتقادات، والأعمال، وأدب المعاملة، وأدب النفس.

وافتتاح الموعظة بنداء المخاطب الموعوظ مع أن توجيه الخطاب مغن عن ندائه لحضوره بالخطاب، فالنداء مستعمل مجازاً في طلب حضور الذهن لوعي الكلام وذلك من الاهتمام بالغرض المسوق له الكلام كما تقدم عند قوله تعالى {يا أبَتِ إني رأيتُ أحَدَ عَشَر كوكباً} [يوسف: 4] وقوله {يا بُني لا تقصص رؤياك} في سورة يوسف (5) وقوله {إذْ قال الحواريون يا عيسى ابنَ مريم هل يستطيع ربك أن يُنَزّل علينا مائدة من السماء} في سورة العقود (112) وقوله تعالى {إذ قال لأبيه يا أبت لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسمع ولا يبْصر} في سورة مريم (42).

و {بُنَيّ} تصغير (ابن)... والتصغير فيه لتنزيل المخاطب الكبير منزلة الصغير كناية عن الشفقة به والتحبب له، وهو في مقام الموعظة والنصيحة إيماء وكناية عن إمحاض النصح وحب الخير، ففيه حث على الامتثال للموعظة.

ابتدأ لقمان موعظة ابنه بطلب إقلاعه عن الشرك بالله لأن النفس المعرضة للتزكية والكمال يجب أن يقدم لها قبل ذلك تخليتُها عن مبادئ الفساد والضلال، فإن إصلاح الاعتقاد أصل لإصلاح العمل. وكان أصل فساد الاعتقاد أحد أمرين هما الدُهرية والإشراك، فكان قوله {لا تشرك بالله} يفيد إثبات وجود إله وإبطال أن يكون له شريك في إلهيته...

وجملة {إن الشرك لظلم عظيم} تعليل للنهي عنه وتهويل لأمره، فإنه ظلم لحقوق الخالق، وظلم المرء لنفسه إذ يضع نفسه في حضيض العبودية لأخس الجمادات، وظلم لأهل الإيمان الحق إذ يبعث على اضطهادهم وأذاهم، وظلم لحقائق الأشياء بقلبها وإفساد تعلقها. وهذا من جملة كلام لقمان كما هو ظاهر السياق، ودل عليه الحديث في « صحيح مسلم» عن عبد الله بن مسعود قال:"لما نزلت {الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} [الأنعام: 82] شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه {يا بنيِّ لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}". وجوَّز ابن عطية أن تكون جملة {إن الشرك لظلم عظيم} من كلام الله تعالى، أي: معترضة بين كَلِم لقمان. فقد روي عن ابن مسعود أنهم لما قالوا ذلك أنزل الله تعالى {إن الشرك لظلم عظيم}، وانظر من روى هذا ومقدار صحته.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ} وهذه هي الصورة الإنسانية الحميمة الرائعة، التي تمثل النموذج الأمثل للمسؤولية التي يتحملها الجيل القديم بالنسبة إلى الجيل الجديد، في علاقة الآباء بالأبناء، فقد سبقوهم إلى التجربة في ما توحي به من المعرفة، وإلى التأمّل في ما يوحي به من العلم، ولذلك فقد كان من الطبيعيّ للجوّ العاطفي الحميم أن يعمدوا إلى اختصار المرحلة التي يحتاج الأبناء إلى أن يقطعوها في وقت طويل، وإلى تقديم التجربة وتحريك المعرفة في حياتهم، ليبدأوا بدايةً طيبةً من الموقع الثابت الصلب، القائم على بدايات الآخرين، لئلا يحتاجوا إلى أن يرجعوا إلى نقطة البداية في ذلك كله.

وهذا هو الذي جعل لقمان يجلس إلى ولده، ليكون الدرس الأول الذي يقدمه له هو توحيد الله، الذي عبّر عنه برفض الشرك، لتتوحد كل آفاق الحياة لديه في أفق واحد، ولتلتقي كل مواقعها في موقعٍ واحدٍ، ولتتحرك كل اتجاهاتها في اتجاهٍ واحد، ليبقى الإنسان مع الله وحده، وليدخل إلى الآخرين من الباب الذي ينفتح على الله، لأنه وحده الحقيقة، وكل ما عداه فهو ظلٌّ لوجوده.

وهناك نقطة أخرى، وهي ربط مسألة الشرك بالله بالظلم، في ما عبرت عنه الآية الكريمة: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لأنه ظلمٌ مضاعف متعددٌ، فهو ظلمٌ لله من موقع التعدي على حق الله في توحيده في العقيدة وفي العبادة، وكل تجاوزٍ عن الحق ظلم، من دون فرقٍ بين انطلاقه من موقع القوّة أمام موقع الضعف، وبين انطلاقه من موقع الضعف الذي لا يراعي حقوق القوي في خلقه وفي نعمه.

وهو ظلمٌ للنفس، لأنه يورّط النفس في عذاب الله، كما يوقعها في الكثير من مواقع سخطه، من خلال الارتباط بغيره، والتعلق بالأهواء، ونسيان الله تعالى ومنهاجه الذي يكفل للإنسان السعادة في الدنيا والآخرة.