التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَنَادَىٰٓ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ أَن قَدۡ وَجَدۡنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّٗا فَهَلۡ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمۡ حَقّٗاۖ قَالُواْ نَعَمۡۚ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُۢ بَيۡنَهُمۡ أَن لَّعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} (44)

جملة : { ونادى أصحاب الجنّة } يجوز أن تكون معطوفة على جملة { وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } [ الأعراف : 43 ] إلخ ، عطفَ القول على القول ، إذْ حكي قولهم المنبيءُ عن بهجتهم بما هم فيه من النّعيم ، ثمّ حكي ما يقولونه لأهل النّار حينما يشاهدونهم .

ويجوز أن تكون معطوفة على جملة { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها } [ الأعراف : 43 ] عطف القصّة على القصّة بمناسبة الانتقال من ذكر نداء من قبل الله إلى ذكر مناداة أهل الآخرة بعضِهم بعضاً ، فعلى الوجهين يكون التعبير عنهم بأصحاب الجنّة دون ضميرهم توطئة لذكر نداء أصحاب الأعراف ونداء أصحاب النّار ، ليعبَّر عن كلّ فريق بعنوانه وليكون منه محسن الطباق في مقابلته بقوله : { أصحاب النار } .

وهذا النّداء خطاب من أصحاب الجنّة ، عبّر عنه بالنّداء كناية عن بلوغه إلى أسماع أصحاب النّار من مسافة سحيقة البُعد ، فإن سعة الجنّة وسعة النّار تقتضيان ذلك لا سيما قوله : { وبينهما حجاب } [ الأعراف : 46 ] ، ووسيلة بلوغ هذا الخطاب من الجنّة إلى أصحاب النّار وسيلة عجيبة غير متعارفة . وعلم الله وقدرتُه لا حدّ لمتعلّقاتهما .

و ( أنّ ) في قوله : { أن قد وجدنا } تفسيرية للنّداء . والخبر الذي هو { قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا } مستعمل في لازم معناه وهو الاغتباط بحالهم ، وتنغيص أعدائهم بعلمهم برفاهيّة حالهم ، والتوركُ على الأعداء إذ كانوا يحسبونهم قد ضلّوا حين فارقوا دين آبائهم ، وأنّهم حَرموا أنفسهم طيّبات الدّنيا بالانكفاف عن المعاصي ، وهذه معاننٍ متعدّدة كلّها من لوازم الإخبار ، والمعاني الكنائيّة لا يمتنع تعدّدها لأنّها تبع للّوازمِ العقليّة ، وهذه الكناية جمع فيها بين المعنى الصّريح والمعاني الكنائيّة ، ولكنّ المعاني الكنائيّة هي المقصودة إذ ليس القصد أن يَعلم أهل النّار بما حصل لأهل الجنّة ولكن القصد ما يلزم عن ذلك . وأمّا المعاني الصّريحة فمدلولة بالأصالة عند عدم القرينة المانعة .

والاستفهام في جملة : { فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا } مستعمل مجازاً مرسلاً بعلاقة اللّزوم في توقيف المخاطبين على غلطهم ، واثارة ندامتهم وغمّهم على ما فرط منهم ، والشّماتة بهم في عواقب عنادهم . والمعاني المجازيّة التي علاقتها اللّزوم يجوز تعدّدها مثل الكناية ، وقرينة المجاز هي : ظهور أنّ أصحاب الجنّة يعلمون أنّ أصحاب النّار وجدوا وعده حقاً .

والوجدان : إلفاء الشّيء ولقيّه ، قال تعالى : { فوجد فيها رجلين يقتتلان } [ القصص : 15 ] وفِعله يتعدّى إلى مفعول واحد ، قال تعالى : { ووجد الله عنده } [ النور : 39 ] ويغلب أن يذكر مع المفعول حالُه ، فقوله : { وجدنا ما وعدنا ربنا حقا } معناه ألفيناه حالَ كونه حقاً لا تخلّف في شيء منه ، فلا يدلّ قوله : { وجدنا } على سبق بحث أو تطلب للمطابقة كما قد يتوهّم ، وقد يستعمل الوجدان في الإدراك والظنّ مجازاً ، وهو مجاز شائع .

و ( ما ) موصولة في قوله : { مَا وعدنا ربّنا } و { مَا وعد ربّكم } ودَلت على أنّ الصّلة معلومة عند المخاطبين ، على تفاوت في الإجمال والتّفصيل ، فقد كانوا يعلمون أنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وعد المؤمنين بنعيم عظيم ، وتوعّد الكافرين بعذاب أليم ، سمع بعضهم تفاصيل ذلك كلَّها أو بعضها ، وسمع بعضهم إجمالها : مباشرة أو بالتّناقل عن إخوانهم ، فكان للموصولية في قوله : { أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا } إيجازٌ بديع ، والجواب بنَعَم تحقيق للمسؤول عنه بهل : لأنّ السؤال بهَل يتضمّن ترجيح السّائل وقوع المسؤول عنه ، فهو جوابُ المقرّ المتحسّر المعترف ، وقد جاء الجواب صالحاً لظاهر السّؤال وخفيِّه ، فالمقصود من الجواب بها تحقيق ما أريد بالسؤال من المعاني حقيقة أو مجازاً ، إذ ليست نعَم خاصة بتحقيق المعاني الحقيقيّة .

وحذف مفعول ( وعَدَ ) الثّاني في قوله : { ما وعد ربكم } لمجرّد الإيجاز لدلالة مقابله عليه في قوله : { ما وعدنا ربنا } لأنّ المقصود من السّؤال سؤالهم عمّا يخصّهم . فالتّقدير : فهل وجدتم ما وعدكم ربّكم ، أي من العذاب لأنّ الوعد يستعمل في الخير والشرّ .

ودلّت الفاء في قوله : { فأذّن مؤذن } على أنّ التّأذين مسبّب على المحاورة تحقيقاً لمقصد أهل الجنّة من سؤال أهل النّار من إظهار غلطهم وفساد معتقدهم .

والتّأذينُ : رفع الصّوت بالكلام رفعاً يُسمع البعيد بقدر الإمكان وهو مشتقّ من الأذن بضمّ الهمزة جارحةِ السمع المعروفة ، وهذا التّأذين إخبار باللّعن وهو الإبعاد عن الخير ، أي إعلام بأنّ أهل النّار مبعدون عن رحمة الله ، زيادة في التّأييس لهم ، أو دعاء عليهم بِزيادة البعد عن الرّحمة ، بتضعيف العذاب أو تحقيق الخلود ، ووقُوع هذا التأذين عقب المحاورة يعلَم منه أنّ المراد بالظّالمين ، وما تبعه من الصّفات والأفعال ، هم أصحاب النّار ، والمقصود من تلك الصّفات تفظيع حالهم ، والنّداء على خبْثثِ نفوسهم ، وفساد معتقدهم .

وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وقُنبل عن ابن كثير : { أنْ لعنة الله } بتخفيف نون ( أن ) على أنّها تفسيريّة لفعل ( أذّنَ ) ورفععِ ( لعنة ) على الابتداء والجملة تفسيرية ، وقرأه الباقون بتشديد النّون وبنصب ( لعنة ) على ( أنّ ) الجملة مفعول ( أذّن ) لتضمنه معنى القَول ، والتّقدير : قائلاً أنّ لعنة الله على الظّالمين .

والتّعبير عنهم بالظّالمين تعريف لهم بوصف جرى مجرى اللّقب تعرف به جماعتهم ، كما يقال : المؤمنين ، لأهل الإسلام ، فلا ينافي أنّهم حين وُصِفوا به لم يكونوا ظالمين ، لأنّهم قد علّموا بطلان الشّرك حقّ العلم وشأن اسم الفاعل أن يكون حقيقة في الحال مجازاً في الاستقبال ، ولا يكون للماضي ، وأمّا إجراء الصّلة عليهم بالفعلين المضارعين في قوله : { يَصدّون } وقوله : { ويَبغونها } وشأنُ المضارع الدّلالة على حدث حاصل في زمن الحال ، وهم في زمن التّأذين لم يكونوا متّصفين بالصدّ عن سبيل الله ، ولا ببغي عوج السّبيل ، فذلك لقصد ما يفيده المضارع من تكرّر حصول الفعل تبعاً لمعنى التّجدّد ، والمعنى وصفهم بتكرّر ذلك منهم في الزّمن الماضي ، وهو معنى قول علماء المعاني استحضار الحالة ، كقوله تعالى في الحكاية عن نوح : { ويصنع الفلك } [ هود : 38 ] مع أنّ زمن صنع الفلك مضى ، وإنّما قصد استحضار حالة التّجدّد ، وكذلك وصفهم باسم الفاعل في قوله : { وهم بالآخرة كافرون } فإن حقه الدلالة على زمن الحال ، وقد استعمل هنا في الماضي : أي كافرون بالآخرة فيما مضى من حياتهم الدّنيا ، وكلّ ذلك اعتماد على قرينة حال السّامعين المانعة من إرادة المعنى الحقيقي من صيغة المضارع وصيغة اسم الفاعل ، إذ قد عَلِم كلّ سامع أنّ المقصودين صاروا غير متلبّسين بتلك الأحداث في وقت التّأذين ، بل تلبّسوا بنقائضها ، فإنّهم حينئذ قد علموا الحقّ وشاهدوه كما دلّ عليه قولهم : { نَعَم } . وإنَّما عُرّفوا بتلك الأحوال الماضية لأنّ النّفوس البشريّة تعرّف بالأحوال التي كانت متلبسة بها في مدّة الحياة الأولى . فبالموت تنتهي أحوال الإنسان فيستقر اتّصاف نفسه بما عاشت عليه ، وفي الحديث : " يبعث كلّ عبد على ما مات عليه " رواه مسلم ، ويجوز أن تكون هذه اللّعنة كانت الملائكة يَلعنونهم بها في الدّنيا . فجهروا بها في الآخرة ، لأنّها صارت كالشّعار للكفرة ينادَون بها ، وهذا كما جاء في الحديث : " يؤتى بالمؤذّنين يوم القيامة يصرخون بالأذان " مع أنّ في ألفاظ الأذان ما لا يقصد معناه يومئذ وهو : « حيّ على الصّلاة حيّ على الفلاح » . وفي حكاية ذلك هنا إعلام لأصحاب هذه الصّفات في الدّنيا بأنّهم محقوقون بلعنة الله تعالى .