اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَنَادَىٰٓ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ أَن قَدۡ وَجَدۡنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّٗا فَهَلۡ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمۡ حَقّٗاۖ قَالُواْ نَعَمۡۚ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُۢ بَيۡنَهُمۡ أَن لَّعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} (44)

لمَّا شَرَحَ وعيد الكفار وثواب أهل الإيمان أتبعه بذكر المُنَاظَراتِ التي تَدُورُ بين الفريقين في هذه الآية .

قوله : { أَن قَدْ وَجَدْنَا } " أن " يحتمل أن تكون تفسيرية للنِّدَاءِ ، وأن تكون مخففة من الثَّقِيلَةِ ، واسمها ضمير الأمر والشَّأنِ ، والجملة بعدها خبرها ، وإذَا كان الفعل مُتَصَرّفاً غير دعاء ، فالأجود الفصل ب " قَدْ " كهذه الآية أو بغيرها . وقد تقدَّم تحقيقه في المائدة .

قال الزَّمخشريُّ{[16158]} : فإن قلت : هلا قيل : ما وعدكم ربكم ، كما قيل : { مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا } .

قلت : حُذف ذلك تخفيفاً لدلالة " وَعَدَنَا " عليه .

ولقائل أن يقول : أطْلِقَ ليتناول كلَّ ما وعد الله من البعث والحساب والعقاب والثواب ، وسائر أحوال القيامة ، لأنَّهُم كانوا مكذِّبين بذلك أجمع ، ولأنَّ الموعود كله ممَّا ساءهم ، وما نعيم أهل الجنَّة إلاَّ عذاب لهم فأطلق لذلك .

قال شِهَابُ الدِّين{[16159]} : قوله : " ولقائل . . . إلى آخره .

هذا الجواب لا يطابق سؤاله ؛ لأنَّ المدعي حذف المفعول الأوَّل ، وهو ضمير المخاطبين .

والجوابُ وقع بالمفعول الثَّاني الذي هو الحِسَابُ والعقاب ، وسائر الأحوال ، [ فهذا ] إنَّما يناسب لو سئل عن حذف المفعول الثاني ، لا المفعول الأول " .

وأجاب ابْنُ الخطيبِ{[16160]} عن السُّؤالِ بأن قوله : { مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا } يدلُّ على أنَّهُ تعالى خاطبهم بهذا الوَعْدِ وكونهم مخاطبين من قبل الله - تعالى - بهذا الوعد يوجب مزيد التّشريف ومزيد التشريف لائق بحال المؤمنين .

أمّا الكَافِرُ فليس أهلاً لأن يخاطبه الله - تعالى - فلهذا السّبب لم يذكر الله تعالى أنَّهُ خاطبهم بهذا الخطاب بل ذكر الله - تعالى - أنَّهُ بيَّن هذا الحكم .

و " نعم " حرف جواب ك " أجل " و " إي " و " جير " و " بلى " ، ونقيضتها " لا " .

و " نَعَمْ " تكون لتصديق الإخبار ، أو إعلام استخبار ، أو وَعْدِ طالب ، وقد يُجَابُ بها النَّفي المقرون باستفهام وهو قليل جدّاً كقول جحْدَرٍ : [ الوافر ]

أَليْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أمَّ عَمْروا *** وإيَّانَا فَذَاكَ بِنَا تَدَانِي

نَعَمْ ، وتَرَى الهِلالَ كَمَا أرَاهُ *** ويَعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلاَنِي{[16161]}

فأجاب قوله : " ألَيْسَ " ب " نعم " ، وكان من حقه أن يقول : بلى ، ولذلك يُرْوَى عن ابن عباس في قوله تعالى : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] : لو قالوا : نعم لكفروا ، وفيه بحثٌ يأتي إنْ شَاءَ اللَّهُ - تعالى - قريباً .

وقرأ الكسائِيُّ{[16162]} والأعمشُ ويحيى بن وثَّابٍ بكسر عينها ، وهي لغة " كنَانَة " ، وطعن أبُو حَاتِمِ عليها وقال : " ليس الكسر بمعروف " .

واحتج الكِسَائِيُّ لقراءته بما يُحكى عن عمر بن الخطاب أنَّه سأل قوماً فقالوا : نعم بالفتح ، فقال : " أمَّا النَّعَم فالإبل فقولوا : نَعِم " أي بالكَسْرِ .

قال أبو عبيد : " ولم نَرَ العرب يعرفون ما رَوَوْه عن عمر ونراه مُوَلَّداً " .

قال شهاب الدين : وهذا طَعْنٌ في المُتَواتِر فلا يُقبل ، وتبدل عينها حاءً ، وهي لغة فاشية ، كما تبدل حاء " حتى " عيناً .

قوله : { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ } .

التأذين في اللُّغَةِ النداء والتّصويت الإعلام ، والأذان للصّلاة إعلام بها وبوقتها .

وقالوا في " أذَن مؤذّن " : نادى مناد أسمع الفريقين .

قال ابن عباس : " وذلك المؤذن من الملائكة وهو صاحبُ الصُّورِ{[16163]} " .

قوله : " بينهم " يجوز أن يكون منصوباً ب " أذَّن " أو ب " مؤذن " فعلى الأول التقدير :

أنَّ المؤذن أوقع ذلك الأذان بينهم أي في وسطهم .

وعلى الثَّاني التَّقديرُ : أنَّ مؤذِّناً من بينهم أذَّن بذلك الأذان ، والأول أوْلَى .

وأن يكون مُتَعَلِّقاً بمحذوف على أنَّهُ صفة ل " مؤذّن " قال مكيّ{[16164]} - عند إجازته هذا الوَجْهِ - : " ولكن لا يعمل في " أنْ " مؤذِّن " إذ قد نعته " يعني أنَّ قوله : " أَن لَّعْنَةُ الله " لا يجوز أنْ يكون معمولاً ل " مؤذّن " ؛ لأنَّهُ موصوف واسم الفاعل متى وصف لم يعمل .

قال شهابُ الدِّين{[16165]} : " وهذا يوهم أنَّا إذا لم نجعل " بَيْنَهُمْ " نعتاً ل " مؤذِّن " جاز أن يعمل في " أنْ " ، وليس الأمر كذلك ؛ لأنَّكَ لو قلت : ضرب ضَارِبٌ [ زيداً تنصب زيداً ب " ضرب " لا ب " ضارب " ] .

لكني قد رأيت الواحِدِي أجاز ما أجاز مكيّ من كون " مؤذّن " عاملاً في " أن " ، وإذا وصفته امتنع ذلك ، وفيه ما تقدّم وهو حسن .

قوله : { أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } " أنْ " يجوز أن تكون المفسِّرة ، وأن تكون المخففة ، والجملة الاسميَّة بعدها الخبر ، فلا حاجة هنا لفاصل .

وقرأ الأخوان{[16166]} ، وابن عامر ، والبزِّي : " أنَّ " بفتح الهمزة وتشديد النون ، ونصب " اللَّعنة " على أنَّهَا اسمها ، و " على الظالمين " خبرها ، وكذلك في [ النور 7 ] { أَن لَّعْنَةُ الله عَلَيْهِ } خفَّف " أنْ " ورفع اللّعنة نافع وحده ، والباقون بالتشديد والنَّصب .

[ قال الواحِديُّ : مَنْ شدّد فهو الأصلُ ، ومن خفَّف فهو مخففة من التشديد على إرادة إضمار القصّة والحديث تقديره : أنه لعنة الله ، ومثله قوله تعالى : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ } [ يونس : 10 ] التقدير : أنَّهُ ، ولا يخفف " أنْ " هذه إلا وتكون بعد إضمار الحديث والشأن ] .

وقرأ{[16167]} عصمةُ عن الأعمشِ : " إنَّ " بالكسر والتشديد ، وذلك : إمَّا على إضمار القول عند البصريين ، وإمَّا على إجراء النِّداء مُجْرى القول عند الكوفِيِّين .


[16158]:ينظر: الكشاف 2/106.
[16159]:ينظر : الدر المصون 3/273.
[16160]:ينظر: تفسير الرازي 14/69.
[16161]:تقدم.
[16162]:ينظر: السبعة 281، والحجة 4/19، وحجة القراءات 282، 283، وإعراب القراءات 1/181، والعنوان 95، وشرح شعلة 389، وشرح الطيبة 4/295، وإتحاف 2/49. وينظر: المحرر الوجيز 2/403، والبحر المحيط 4/303، والدر المصون 3/273.
[16163]:ذكره الرازي في تفسيره 14/70.
[16164]:ينظر: المشكل 1/317.
[16165]:ينظر: الدر المصون 3/273.
[16166]:ينظر: السبعة 281، 282، والحجة 4/21، 22، وحجة القراءات 283، وإعراب القراءات 1/182، والعنوان 95، وشرح شعلة 389، وشرح الطيبة 4/297، وإتحاف 2/49.
[16167]:ينظر: المحرر الوجيز 2/403، والبحر المحيط 4/303، والدر المصون 3/273، والتخريجات النحوية 79.