التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَإِذَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٌ أَنۡ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَجَٰهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ ٱسۡتَـٔۡذَنَكَ أُوْلُواْ ٱلطَّوۡلِ مِنۡهُمۡ وَقَالُواْ ذَرۡنَا نَكُن مَّعَ ٱلۡقَٰعِدِينَ} (86)

هذا عطف غرض على غرض قصد به الانتقال إلى تقسيم فرق المتخلّفين عن الجهاد من المنافقين وغيرهم وأنواع معاذيرهم ومراتِبها في القبول . دعا إليه الإغلاظ في تقريع المتخلّفين عن الجهاد نفاقاً وتخذيلا للمسلمين ، ابتداء من قوله : { يأيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] ثم قوله : { لو كان عرضاً قريباً } [ التوبة : 42 ] وكلّ ذلك مقصود به المنافقون .

ولأجل كون هذه الآية غرضاً جديداً ابتدأت بذكر نزول سورة داعية إلى الإيمان والجهاد . والمراد بها هذه السورة ، أي سورة براءة ، وإطلاق اسم السورة عليها في أثنائها قبل إكمالها مجاز متّسع فيه كإطلاق الكتاب على القرآن في أثناء نزوله في نحو قوله : { ذلك الكتاب لا ريب فيه } [ البقرة : 2 ] وقوله : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } [ الأنعام : 92 ] فهذا الوصف وصف مقدّر شبيه بالحال المقدّرة .

وابتدأ بذكر المتخلّفين من المنافقين بقوله : { استأذنك أولوا الطول منهم } .

والسورة طائفة معينة من آيات القرآن لها مبدأ ونهاية وقد مضى الكلام عليها آنفاً وقبيل هذا .

ولمّا كانت السورةُ ألفاظاً وأقوالاً صحّ بيانها ببعض ما حوته وهو الأمر بالإيمان والجهاد فقوله : { أن آمنوا بالله } تفسير للسورة و { أنْ } فيه تفسيرية كالتي في قوله تعالى حكاية عن عيسى { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم } [ المائدة : 117 ] ويجوز تفسير الشيء ببعضه شبهُ بدل البعض من الكلّ .

وليس المراد لفظ { آمنوا } وما عطف عليه بل ما يراد فهما مثل قوله : { يأيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله } [ التوبة : 38 ] الآيات وقوله : { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم } [ التوبة : 44 ] .

والطَّوْل : السعة في المال قال تعالى : { ومن لم يستطع منكم طَوْلا أن ينكح المحصنات المؤمنات } [ النساء : 25 ] وقد تقدّم . والاقتصار على الطّول يدلّ على أنّ أولي الطول مراد بهم من له قدرة على الجهاد بصحة البدن . فبوجود الطول انتفى عذرهم إذ من لم يكن قادراً ببدنه لا ينظر إلى كونه ذا طول كما يدلّ عليه قوله بعدُ { ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج } [ التوبة : 91 ] .

والمراد بأولِي الطول أمثال عبد الله بن أبَيّ بن سَلول ، ومعتّب بن قشير ، والجِدّ بن قيس .

وعطف { وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين } على { استئذنك } لما بينهما من المغايرة في الجملة بزيادة في المعطوف لأن الاستئذان مجمل ، وقولهم المحكي فيه بيان ما استأذنوا فيه وهو القعود . وفي نظمه إيذان بتلفيق معذرتهم وأنّ الحقيقة هي رغبتهم في القعود ولذلك حكي قولهم بأنْ ابتُدىء ب { ذَرْنا } المقتضي الرغبة في تركهم بالمدينة . وبأن يكونوا تبعاً للقاعدين الذين فيهم العُجَّز والضعفاء والجبناء ، لما تؤذن به كلمة { مع } من الإلحاق والتبعية .

وقد تقدّم أن ( ذَرْ ) أمر من فعل ممات وهو ( وَذَرَ ) استغنَوا عنه بمرادفه وهو ( تَرك ) في قوله تعالى : { وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً } في سورة الأنعام ( 70 ) .