المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ صَٰحِبَةٞۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيۡءٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (101)

و { بديع } بمعنى : مبدع ومخترع وخالق ، فهو بناء اسم فاعل كما جاء : سميع بمعنى مسمع و { أنى } بمعنى كيف ومن أين ، فهي استفهام في معنى التوقيف والتقرير ، وقرأ جمهور الناس «ولم تكن » بالتاء على تأنيث علامة الفعل ، وقرأ إبراهيم النخعي : بالياء على تذكيرها وتذكير كان وأخواتها مع تأنيث اسمها أسهل من ذلك في سائر الأفعال ، فقولك : كان في الدار هند أسوغ من قام في الدار هند{[5036]} ، وحسن القراءة الفصل بالظرف الذي هو الخبر ويتجه في القراءة المذكورة أن يكون في { تكن } ضمير اسم الله تعالى ، وتكون الجملة التي هي { له صاحبة } خبر كان ، ويتجه أن يكون في «يكن » ضمير أمر وشأن وتكون الجملة بعد تفسيراً له وخبراً ، وهذه الآية رد على الكفار بقياس الغائب على الشاهد ، وقوله { وخلق كل شيء } لفظ عام لكل ما يجوز أن يدخل تحته ولا يجوز أن يدخل تحته صفات الله تعالى وكلامه ، فليس هو عموماً مخصصاً على ما ذهب إليه قوم لأن العموم المخصص هو أن يتناول العموم شيئاً ثم يخرجه التخصيص ، وهذا لم يتناول قط هذه التي ذكرناها ، وإنما هذا بمنزلة قول الإنسان : قتلت كل فارس وأفحمت كل خصم فلم يدخل القائل قط في هذا العموم الظاهر من لفظه{[5037]} ، وأما قوله { وهو بكل شيء عليم } فهذا عموم على الإطلاق ولأن الله عز وجل يعلم كل شيء لا رب غيره ولا معبود سواه ، ولما تقررت الحجج وبانت الوحدانية جاء قوله تعالى : { ذلكم الله ربكم }


[5036]:- علق على ذلك أبو حيان في "البحر 4/ 194" فقال: "ولا أعرف هذا عن النحويين، ولم يفرقوا بين كان وغيرها".
[5037]:- صرح القرطبي بأنه عموم معناه الخصوص، وقال: "ومثله {ورحمتي وسعت كل شيء} ولم تسع إبليس ولا من مات كافرا، ومثله: [تدمر كل شيء] ولم تدمر السماوات والأرض".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ صَٰحِبَةٞۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيۡءٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (101)

جملة مستأنفة وهذا شروع في الإخبار بعظيم قدرة الله تعالى ، وهي تفيد مع ذلك تقوية التّنزيه في قوله : { سبحانه وتعالى عمّا يصفون } [ الأنعام : 100 ] فتتنزّل منزلة التَعليل لمضمون ذلك التّنزيه بمضمونها أيضاً ، وبهذا الوجه رَجَح فصلُها على عطفها فإنّ ما يصفونه هو قولهم : إنّ له ولداً وبنات ، لأنّ ذلك التّنزيه يتضمّن نفي الشيء المنزّه عنه وإبطاله ، فعُلّل الإبطال بأنّه خالقُ أعظم المخلوقات دلالة على القدرة فإذا كنتم تدّعون بنوّة الجنّ والملائكة لأجل عظمتها في المخلوقات وأنتم لا ترون الجنّ ولا الملائكة فلماذا لم تدّعوا البنوّة للسماوات والأرض المشاهدة لكم وأنتم ترونها وترون عظمها . فهذا الإبطال بمنزلة النّقض في علم الجدل والمناظرة .

وقوله : { بديع } خبر لمبتدأ ملتزم الحذف في مثله ، وهو من حذف المسند إليه الجاري على متابعة الاستعمال عندما يتقدّم الحديث عن شيء ثمّ يعقّب بخبر عنه مفردٍ ، كما تقدّم في مواضع . وتقدّم الكلام على { بديع السّماوات والأرض } عند قوله تعالى : { بل له ما في السّماوات والأرض كلّ له قانتون بديع السّماوات والأرض } في سورة [ البقرة ( 116 ، 117 ] .

والاستدلال على انتفاء البنوة عن الله تعالى بإبدَاع السّماوات والأرض لأنّ خلْق المحلّ يقتضي خلق الحالّ فيه ، فالمشركون يقولون بأنّ الملائكة في السّماء وأنّ الجنّ في الأرض والفيافي ، فيلزمهم حدوث الملائكة والجنّ وإلاّ لَوُجد الحالّ قبل وجود المحلّ ، وإذا ثبت الحدوث ثبت انتفاء البنوّة لله تعالى ، لأنّ ابن الإله لا يكون إلاّ إلهاً فيلزم قِدمه ، كيف وقد ثبت حدوثه ، ولذلك عقّب قولهم { اتّخذ الله ولداً } [ البقرة : 116 ] بقوله : { سبحانه بل له ما في السّماوات والأرض كلّ له قَانِتُون } في سورة [ البقرة : 116 ] . وقد أشرنا إلى ذلك عند قوله تعالى : { الحمد لله الَّذي خلق السّماوات والأرض } في أوّل هذه السّورة [ 1 ] .

وجملة { أنَّى يكون له ولد } تتنزّل منزلة التّعليل لمضمون التنزيه مِن الإبطال ، وإنّما لم تعطف على الّتي قبلها لاختلاف طريق الإبطال لأنّ الجملة الأولى أبطلتْ دعواهم من جهة فساد الشّبهة فكانت بمنزلة النقْض في المناظرة . وهذه الجملة أبطلت الدّعوى من جهة إبطال الحقيقة فكأنّها من جهة خطأ الدّليل ، لأنّ قولهم بأنّ الملائكة بنات الله والجنّ أبناءُ الله يتضمّن دليلاً محذوفاً على البنوّة وهو أنّهم مخلوقات شريفة ، فأبطل ذلك بالاستدلال بما ينافي الدّعوى وهو انتفاء الزّوجة الّتي هي أصل الولادة ، فهذا الإبطال الثّاني بمنزلة المعارضة في المناظرة . و { أنّى } بمعنى من أيْن وبمعنى كَيْف .

والواو في { ولم تكن له صاحبة } واو الحال لأنّ هذا معلوم للمخاطبين فلذلك جيء به في صيغة الحال .

والصّاحبة : الزّوجة لأنّها تصاحب الزّوج في معظم أحْواله . وقد جعل انتفاء الزّوجة مسلّماً لأنّهم لم يدعوه فلزمهم انتفاء الولد لانتفاء شرط التولّد ، وهذا مبنيّ على المحاجّة العرفيّة بناء على ما هو المعلوم في حقيقة الولادة .

وقوله : { وخلَقَ كلّ شيء } عطف على جملة : { بديع السّماوات والأرض } باعتبار ظاهرها وهو التّوصيف بصفات العظمة والقدرة ، فبعد أن أخبر بأنّه تعالى مبدع السّماوات والأرض أخبر أنّه خالق كلّ شيء ، أي كلّ موجود فيشمل ذوات السّماوات والأرض ، وشمل ما فيهما ، والملائكة من جملة ما تحويه السّماوات ، والجنّ من جملة ما تحويه الأرض عندهم ، فهو خالق هذين الجنسين ، والخالق لا يكون أبا كما علمتَ . ففي هذه الجملة إبطال والولَد أيضاً ، وهذا إبطال ثالث بطريق الكليّة بعد أن أبطل إبطالاً جزئياً ، والمعنى أنّ الموجودات كلّها متساوية في وصف المخلوقيّة ، ولو كان له أولاد لكانوا غير مخلوقين .

وجملة : { وهو بكلّ شيء عليم } تذييل لإتمام تعليم المخاطبين بعض صفات الكمال الثّابتة لله تعالى ، فهي جملة معطوفة على جملة : { وخلق كلّ شيء } باعتبار ما فيها من التوّصيف لا باعتبار الردّ . ولكون هذه الجملة الأخيرة بمنزلة التّذييل عدل فيها عن الإضمار إلى الإظهار في قوله : { بكلّ شيء } دون أن يقول « به » لأنّ التّذييلات يقصد فيها أن تكون مستقلّة الدّلالة بنفسها لأنّها تشبه الأمثال في كونها كلاماً جامعاً لمعان كثيرة .