لمَّا بيَّن فساد أقوال المشركين شَرَعَ في إقامة الدلالة على فساد قول من يثبت له الولد ، فقال : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } .
والإبداع : عبارة عن تَكْوينِ الشيء من غير سَبْقِ مثالٍ ، وتقدَّم الكلامُ عليه في " البقرة " .
وقرأ الجمهور{[14812]} رفع العين ، وفيها ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو بَدِيعٌ ، فيكون الوَقْفُ على قوله : " والأرض " فهي جملة مستقلة بنفسها .
الثاني : أنه فاعل بقوله : " تعالى " ، أي : تعالى بديع السماوات ، وتكون هذه الجملة الفعلية مَعْطُوفَةً على الفِعْلِ المقدر قبلها ، وهو النَّاصب ل " سبحان " فإن " سبحان " كما تقدَّم من المصادرِ اللازم إضمار ناصبها .
الثالث : أنه مبتدأ وخبره ما بعده من قوله : { أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَد } .
وقرأ المنصور{[14813]} " بديع " بالجر قال الزمخشري{[14814]} : ردَّا على قوله : " وجعلوا لله " ، أو على " سبحانه " كذا قاله ، ولم يبيّن على أي وجه من وُجُوهِ الإعراب هو وكذا أبو حيَّان - رحمه الله - حَكَاهُ عنه ومرَّ عليه ، ويريد بالرد كونه تابعاً ، إما : لله ، أو للضمير المجرور في " سُبْحَانَهُ " وتبعيته له على كونه بدلاً من " لله " تعالى أو من الهاء في " سُبْحَانَهُ " ويجوز أن يكون نَعْتاً [ لله على أن تكون إضافة " بديع " مَحْضَةً كما ستعرفه .
وأما تَبَعِيَّتُهُ للهاء فيتعين أن يكون بدلاً ، ويمتنع أن يكون نَعْتاً ] ، وإن اعتقدنا تعريفه بالإضافة لِمُعَارضِ آخر ، وهوأن الضمير لا ينعت إلا ضمير الغائب على رأي الكسائي ، فعلى رأيه قد يجوز ذلك .
وقرأ أبو صالح الشَّامي{[14815]} : " بديعَ " نصباً ، ونَصْبُهُ على المَدْحِ ، وهي تؤيد قراءة الجر ، وقراءة الرفع المتقدمة يحتمل أن تكون أصْلِيَّة الإتباع بالجر على البَدَلِ ثم قطع التابع رفعاً .
و " بديع " يجوز أن يكون بمعنى " مُبْدِعٍ " وقد سَبَقَ معناه ، أو تكون صِفَةً مشبهة أضيفت لمرفوعها ، كقولك : فلان بديعُ الشعر ، أي : بديع شعره ، وعلى هذيْنِ القولين ، فإضافته لَفْظِيَّةٌ ، لأنه في الأوَّل من باب إضافة اسم الفاعل إلى منصوبه ، وفي الثُّاني من باب إضافة الصفة المشبهة إلى مرفوعها ، ويجوز أن تكون بمعنى عديم النظير والمثل فيهما ، كأنه قيل : البديع في السماوات والأرض ، فالإضافة على هذا إضافةٌ مَحْضَةٌ .
قوله : { أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } " أنَّى " بمعنى " كيف " [ أو " من أين " ]{[14816]} وفيها وجهان :
أحدهما : أنها خبر كان الناقصة ، و " له " في محل نصبٍ على الحال ، و " ولد " اسمها ، ويجوز أن تكون مَنْصُوبَةً على التشبيه بالحال أو الظرف ، كقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ } [ البقرة :28 ] . والعامل فيها قال أبو البقاء{[14817]} : [ " يكون " ]{[14818]} وهذا على رَأي من يجيز في " كان " أن تعمل في الأحوال والظروف وشبههما ، و " له " خبر يكون ، و " ولد " اسمها .
ويجوز في " يكون " أن تكون تامَّةً ، وهذا أحْسَنُ أي : كيف يوجد له ولدٌ ، وأسباب الولدية مُنْتَفِيَةٌ ؟
قوله : { وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ } هذه " الواو " للحال ، والجملة بعدها في مَحَل نصب على الحال من مضمون الجملة المتقدمة ، أي : كيف يُوجد له ولد ، والحال أنه لم يكن له زَوجٌ ، وقد عُلِمَ أن الولدَ إنما يكون من بين ذكرٍ وأنثى ، وهو مُنَزَّهٌ عن ذلك .
والجمهور{[14819]} على " تكن " بالتاء من فوق .
وقرأ النخعي{[14820]} بالياء من تحت وفيه أربعة أوجه :
أحدها : أن الفِعْلَ مسند إلى " صاحبه " أيضاً كالقراءة المشهورة ، وإنما جاز التذكير لِلْفَصْلِ كقوله : [ الوافر ]
لَقَدْ وَلَدَ الأخَيْطِلَ أمُّ سَوْءٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[14821]}
إنَّ امْرَأ غَرَّهُ مِنْكُنَّ وَاحِدَةٌ *** بَعْدِي وبَعْدَكِ في الدُّنْيَا لَمَغْرُورُ{[14822]}
وقال ابن عطيَّة{[14823]} : " وتذكير " كان " وأخواتها مع تأنيث اسمها أسْهَلُ من ذلك في سائر الأفعال " .
قال أبو حيَّان{[14824]} - رحمه الله - : " ولا أعرف هذا عن النحويين ، ولم يُفَرِّقوا بين " كان " وغيرها " .
قال شهاب{[14825]} الدين : هذا كلامٌ صحيح ، ويؤيده أن الفارسيَّ وإن كان يقول بِحَرْفِيَّةِ بعضها ك " ليس " ، فإنه لا يجيزحَذْفَ التاء منها لو قلت : " ليس هند قائمة " لم يَجُزْ .
الثاني : أن في " يكون " ضميراً يعود على الله تعالى ، و " له " خبر مُقدَّمٌ ، و " صاحبة " مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر " يكون " .
الثالث : أن يكون " له " وحْدَهُ هو الخبر ، و " صاحبة " فاعل به لاعْتِمَادِهِ وهذه أوْلَى مِمَّا قبله ؛ لأن الجارَّ أقْرَبُ إلى المفرد ، والأصل في الأخبار الإفراد .
الرابع : أنَّ في " يكون " ضمير الأمر والشأن ، و " له " خبر مُقدَّمٌ ، و " صاحبة " مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر " يكون " مفسّرة لضمير الشأن ، ولا يجوز في هذا أن يكون " له " هو الخبر وَحْدَهُ ، و " صاحبة " فاعل به ، كما جاز في الوجه قبله .
والفرق أن ضمير الشَّأن لا يُفَسَّر إلا بجملة صريحة ، وقد تقدَّم أن هذا النَّوْعَ من قبيل المفردات ، و [ " تكن " ]{[14826]} يَجُوزُ أن تكون النَّاقِصَةَ أو التامة حسبما تقدَّم فيما قبلها .
وقوله : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ } هذه جملة إخبارية مُسْتَأنَفَةٌ ، ويجوز أن تكون حالاً وهي حال لازمة .
فصل في إبطال نسبة الولد إلى الله تعالى عن ذلك
اعلم أنَّ المَقْصُودَ من الآية بيانُ إبطال من يثبت الولد منه تبارك وتعالى ، فيقال لهم : إما أن تريديوا بكونه ولداً لله تبارك وتعالى [ كما هو المعهود من كون الإنسان ولداً لأبيه ]{[14827]} أو أبدعه من غير تقدُّمِ نُطْفَةٍ ووالد ، وإما أن تريدوا بكونه ولداً لله كما هو المألوف ، وإما أن تريدوا بكونه ولداً لله مفهوماً ثالثاً مغايراً لهذين المفهومين ، أما الأول فباطل ؛ لأنه -تبارك وتعالى- وإن كان يحدث الحوادث في مثل هذا العالم الأسفل ، بناء على أسباب معلومة ، إلاَّ أنَّ النصارى يسلمون أن العالم الأسفل محدث .
وإذا كان كذلك لزمهم الاعْتِرَافُ بأن الله -تعالى- خلق السماوات والأرض من غير سبق مادَّةٍ ، وإذا كان كذلك وَجَبَ أن يكون إحْدَاثُهُ للسموات والأرض إبْدَاعاً ، فلو لزم من مجرد كونه مُبْدِعاً [ لإحداث عيسى- عليه الصَّلاة والسَّلام - كونه والداً له لزم من كونه مُبْدِعاً ]{[14828]} للسموات والأرض أن يكون والداً لهما ، وذلك مُحَالٌ ، فلزم من كونه مُبْدِعاً لعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام ألاًّ يكون والداً لهما وهذا هو المراد من قوله : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } وإنما ذكر السماوات والأرض فقط ، ولم يذكر ما فيهما ، لأن حدوث ما في السماوات والأرض ليس على سبيل الإبداع ، أمَّا حُدُوثُ ذَاتِ السماوات والأرض ، فقد كان على سبيل الإبداع ، فحصل الإبداع بِذِكْرِ السماوات والأرض لا بذكر ما فيهما ، وإن أرادوا من الوِلادَةِ الأمر المعهود في الحيوانات ، فهذا أيضاً باطل من وجوه :
أولها : أن الولادةَ لا تَصِحُّ إلا ممن له زوجة وشَهْوَةٌ ينفصل عنه بِجُزْءٍ في باطن تلك الصَّاحبة ، وهذه الأحوال إنما تثبت في حَقِّ الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق ، والحركة والسكون والشَّهْوَةُ واللَّذَّةُ ، وكل ذلك على خالق العالم مُحَالٌ ، وهذا هو المراد من قوله : { أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ } .
ثانيها : أن تحصيل الولد بهذا الطريق المعتاد إنما يصح في حق من لا يكون قادراً على الخلق ، وأمَّا الخالق لكل الممكنات ، القادر على كل المحدثات ، فإذا أراد إحداث شيء قال له : " كن فيكون " ومن كان هذا صفته يمتنع إحداث شخص بطريق الوِلادةِ ، وهذا هو المراد من قوله : { خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } .
وثالثها : أن هذا الولد إمَّا أن يكون قديماً أو محدثاً ، لا جائز أن يكون قديماً ؛ لأن القديم يجب كونه واجب الوجود لِذَاتِهِ وما كان واجباً لذاته غني عن غيره ، فيمتنع كونه ولداً لغيره ، فبقي أن يكون الولد محدثاً ، وإذا كان والداً كان محدثاً فنقول : إنه تبارك وتعالى عالم بجميع المَعْلُومَات ، فإما أن يعمل أن له في تحصيل الولد كمالاً ونفعاً أو يعلم أنه ليس الأمر كذلك ، فإن كان الأول فلا وَقْتَ يفرض أن الله -تعالى- خلق هذا الولد فيه إلاَّ والدَّاعي إلى إيجاد هذا الولد كان حاصلاً قبله ، فيلزم حُصُولُ الولد قبل ذلك ، وهذا يوجب كون ذلك الولد أزليَّا وهو مُحَالٌ .
وإن علم أنه ليس في تحصيل الولد كمال ونفع ، فيجب ألاَّ يحدثه ألبتة ، وهذا هو المراد من قوله تعالى : { وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وأما الاحتمال الثالث فذلك بَاطِلٌ غير مُتَصَوَّرٍ ، ولا مفهوم للعقل ، فالقول بإثبات الولادة بناء على ذلك مَحْضُ الجهل ، وهو بَاطِلٌ .