الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ صَٰحِبَةٞۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيۡءٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (101)

قوله تعالى : { بَدِيعُ } : قرأ الجمهور برفع العين ، وفيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي : هو بديعُ ، فيكون الوقفُ على قوله " والأرض " فهي جملة مستقلة بنفسها . الثاني : أنه فاعلٌ بقوله " تعالى " ، أي تعالى بديع السماوات ، وتكون هذه الجملةُ الفعليةُ معطوفةٌ على الفعلِ المقدَّرِ قبلَها وهو الناصبُ لسبحان فإنَّ " سبحان " كما تقدَّم من المصادر اللازم إضمارُ ناصبِها . الثالث : أنه مبتدأ وخبرُه ما بعده من قوله { أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } . وقرأ المنصور " بديعِ " بالجر ، قال الزمخشري : " رداً على قوله وجعلوا لله أو على سبحانه " كذا قاله ، ولم يُبَيِّنْ على أيِّ وجهٍ من وجوهِ الإِعراب هو ، وكذا الشيخُ حكاه عنه ومرَّ عليه ، ويريد بالردّ كونَه تابعاً إمَّا : لله ، أو للضمير المجرور في " سبحانه " ، وتبعيَّتُه له على كونه بدلاً من " لله " أو من الهاء في " سبحانه " ، ويجوز أن يكون نعتاً لله على أن تكون إضافةُ " بديع " محضةً كما ستعرفه ، وأما تبعيَّتُه للهاءِ فيتعيَّنُ أن يكونَ بدلاً ، ويمتنعُ أن يكون نعتاً وإن اعتقَدْنا تعريفَه بالإِضافة لمعارِضٍ آخر : وهو أن الضميرَ لا يُنعت ، إلا ضميرَ الغائب على رأيِ الكسائي ، فعلى رأيه قد يجوز ذلك .

وقرأ أبو صالح الشامي " بديعَ " نصباً ، ونصبه على المدح وهي تؤيد قراءةَ الجر . وقراءةُ الرفع المتقدمة يحتمل أن يكون أصلها الإِتباعُ بالجرَّ على البدل ثم قطع التابع رفعاً . وبديع يجوز أن يكونَ بمعنى مُبْدِع ، وقد سَبَقَ معناه ، أو يكونَ صفةً مشبهة أضيفت لمرفوعها كقولك : فلان بديع الشعر أي : بديعٌ شعرُهُ ، وعلى هذين القولين فإضافته لفظية لأنه في الأول من بابِ إضافة اسم الفاعل لمنصوبه ، وفي الثاني من بابِ إضافةِ الصفة المشبهة لمرفوعها ، ويجوز أن يكونَ بمعنى عديم النظير والمِثْل فيهما ، كأنه قيل : البديع في السماوات والأرض ، فالإِضافةُ على هذا إضافةٌ مَحْضَةٌ .

قوله : { أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } أنَّى بمعنى كيف أو مِنْ أين ، وفيها وجهان أحدهما : أنها خبر كان الناقصة و " له " في محل نصب على الحال ، و " ولد " اسمُها ، ويجوز أن تكون منصوبةً على التشبيه بالحالِ أو الظرفِ كقوله " كيف تكفرون بالله " والعاملُ فيها قال أبو البقاء : " يكون " ، وهذا على رأي مَنْ يُجيز في " كان " أن تعمل في الأحوال والظروف وشبههما ، و " له " خبر يكون و " ولد " اسمها . ويجوز في " يكون " أن تكونَ تامةً ، وهذا أحسنُ ، أي : كيف يُوْجَدُ له ولدٌ وأسباب الوَلَدِيَّةِ منتفيةٌ ؟

قوله : " ولم تكنْ له صاحبةٌ " هذه الواو للحال ، والجملةُ بعدها في محل نصب على الحال من مضمون الجملة المتقدمة أي : كيف يوجد له ولد والحال أنه لم يكن له زوج ، وقد عُلِمَ أن الولد إنما يكون من بين ذكر وأنثى وهو مُنَزَّهٌ عن ذلك .

والجمهور على " تكن " بالتاء من فوق . وقرأ النخعي بالياء من تحت وفيه أربعة أوجه ، أحدها : أن الفعل مسند إلى " صاحبة " أيضاً كالقراءة المشهورة ، وإنما جاز التذكير للفصل كقوله :

لقد وَلَدَ الأخيطِلَ أمُّ سوءٍ *** . . . . . . . . . . . . .

وقوله :

إنَّ امرَأً غَرَّه في الدنيا واحدةٌ *** بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور

وقال ابن عطية : " وتذكيرُ كان وأخواتها مع تأنيث اسمِها أسهلُ من ذلك في سائر الأفعال " . قال الشيخ : " ولا أعرفُ هذا عن النحويين ولم يُفَرِّقوا بين كان وغيرها " . قلت : هذا كلام صحيح ، ويؤيده أن الفارسي وإن كان يقول بحرفية بعضها ك ليس فإنه لا يُجيز حَذْفَ التاء منها ، لو قلت : " ليس هند قائمة " لم يجز . الثاني : أن في " يكون " ضميراً يعود على الله تعالى ، و " له " خبر مقدم ، و " صاحبة " مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر " يكون " . الثالث أن يكون " له " وحدَه هو الخبر ، و " صاحبةٌ " فاعل به لاعتماده/ وهذا أَوْلَى ممَّا قبله ؛ لأنَّ الجارَّ أقربُ إلى المفرد ، والأصل في الأخبار الإِفراد . الرابع : أنَّ في " يكون " ضميرَ الأمر والشأن و " له " خبرٌ مقدَّمٌ ، و " صاحبةٌ " مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر " يكون " مفسِّرة لضمير الشأن ، ولا يجوزُ في هذا أن يكون " له " هو الخبر وحده و " صاحبةٌ " فاعلٌ به كما جاز في الوجه قبله . والفرق أنَّ ضمير الشأنِ لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ صريحة ، وقد تقدَّم أنَّ هذا النوعَ من قبيل المفردات . و " تكن " يجوز أن تكونَ الناقصة أو التامة حسبما تقدَّم فيما قبلها .

وقوله : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } هذه جملة إخبارية مستأنفة ، ويجوز أن تكون حالاً ، وهي حال لازمة .