المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعۡدِ عَادٖ وَبَوَّأَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورٗا وَتَنۡحِتُونَ ٱلۡجِبَالَ بُيُوتٗاۖ فَٱذۡكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ} (74)

{ بوأكم } معناه مكنكم ، وهي مستعملة في المكان وظروفه ، تقول تبوأ فلان منزلاً حسناً ، ومنه قوله تعالى { تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال } وقال الأعشى : [ الطويل ]

فما بَّوأ الرحمان بيتك منزلاً*** بشرقيّ أجيادِ الصَّفا والمحرمِ

و «القصور » : جمع قصر وهي الدور التي قصرت على بقاع من الأرض مخصوصة بخلاف بيوت العمود وقصرت عن الناس قصراً تاماً ، و «النحت » النجر والقشر في الشيء الصلب كالحجر والعود ونحوه ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «تنحَتون » بفتح الحاء ، وقرأ جمهور الناس : بكسرها وبالتاء من فوق ، وقرأ ابن مصرف : بالياء من أسفل وكسر الحاء ، وقرأ أبو مالك بالياء من أسفل وفتح الحاء ، وكانوا «ينحِتون » الجبال لطول أعمارهم ، و { تعثوا } معناه تفسدوا يقال : عثا يعثي وعثا يعثو وعثى يعثى كنسى ينسى وعليها لفظ الآية ، وقرأ الأعمش «تِعثوا » بكسر التاء و { مفسدين } : حال .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعۡدِ عَادٖ وَبَوَّأَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورٗا وَتَنۡحِتُونَ ٱلۡجِبَالَ بُيُوتٗاۖ فَٱذۡكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ} (74)

يجوز أن يكون عطفاً على قوله : { اعبدوا الله } [ الأعراف : 73 ] وأن يكون عطفاً على قوله : { فذروها تأكل في أرض الله } [ الأعراف : 73 ] إلخ . والقول فيه كالقول في قوله : { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } [ الأعراف : 69 ] .

{ وبوأكم } معناه أنزلكم ، مشتق من البَوْء وهو الرّجوع ، لأنّ المرء يرجع إلى منزله ومسكنه ، وتقدّم في سورة آل عمران ( 121 ) ، { تُبَوّىءُ المؤمنين مَقاعد للقتال } وقوله : { في الأرض } يجوز أن يكون تعريفُ الأرض للعهد ، أي في أرضكم هذه ، وهي أرض الحِجر ، ويجوز أن يكون للجنس لأنّه لما بوأهم في أرض معيّنة فقد بَوّأهم في جانب من جوانب الأرض .

و« السّهول » جمع سهل ، وهو المستوي من الأرض ، وضدّه الجبل .

والقصور : جمع قصر وهو المسكن ، وهذا يدلّ على أنّهم كانوا يشيّدون القصور ، وآثارُهم تنطق بذلك .

و ( مِنْ ) في قوله : { من سهولها } للظرفيّة ، أي : تتّخذون في سهولها قصوراً .

والنّحت : بَرْي الحَجَر والخَشَب بآلة على تقدير مخصوص .

والجبال : جمع جبل وهو الأرض النّاتئة على غيرها مرتفعة ، والجبال : ضدّ السّهول .

والبيوت : جمع بيت وهو المكان المحدّد المتّخذ للسكنى ، سواء كان مبنياً من حجر أم كان من أثواب شعرٍ أو صوفٍ . وفعل النّحت يتعلّق بالجبال لأنّ النّحت يتعلّق بحجارة الجبال ، وانتصب { بيوتاً } على الحال من الجبال ، أي صائرة بعد النّحت بيوتاً ، كما يقال : خِطْ هذا الثّوب قميصاً ، وابْرِ هذه القصبة قَلماً ، لأنّ الجبل لا يكون حاله حال البيوت وقت النّحت ، ولكن يصير بيوتاً بعد النّحت .

ومحلّ الامتنان هو أن جعل منازلهم قسمين : قسم صالح للبناء فيه ، وقسم صالح لنحت البيوت ، قيل : كانوا يسكنون في الصّيف القصور ، وفي الشّتاء البيوتَ المنحوتة في الجبال .

وتفريع الأمر بذِكْر آلاءِ الله على قوله : { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد } تفريع الأعم على الأخصّ ، لأنّه أمَرهم بذكر نعمتين ، ثمّ أمرهم بذكر جميع النّعم التي لا يحصونها ، فكان هذا بمنزلة التّذييل .

وفعل : { اذكروا } مشتقّ من المصدر ، الذي هو بضمّ الذّال ، وهو التذَكَّر بالعقل والنّظر النّفساني ، وتذكّر الآلاء يبعث على الشّكر والطّاعة وترك الفساد ، فلذلك عطف نهيهم عن الفساد في الأرض على الأمر بذكر آلاء الله .

{ ولا تعثوا } معناه ولا تفسدوا ، يقال : عَثِيَ كَرضِي ، وهذا الأفصح ، ولذلك جاء في الآية بفتح الثّاء حين أسند إلى واو الجماعة ، ويقال عَثا يعثو من باب سَما عثواً وهي لغة دون الأولى ، وقال كراع ، كأنّه مقلوب عاث . والعَثْيُ والعَثْو كلّه بمعنى أفسد أشدّ الإفساد .

ومفسدين حال مؤكّدة لمعنى { تعثوا } وهو وإن كان أعمّ من المؤكَّد فإنّ التّأكيد يحصل ببعض معنى المؤكَّد .