إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعۡدِ عَادٖ وَبَوَّأَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورٗا وَتَنۡحِتُونَ ٱلۡجِبَالَ بُيُوتٗاۖ فَٱذۡكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ} (74)

{ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد } أي خلفاءَ في الأرض أو خلَفاً لهم كما مر { وبوأكم في الأرض } أي جعل لكم مَباءةً ومنزلاً في أرض الحِجْر بين الحجازِ والشام { تتخذون من سهولها قصوراً } استئنافٌ مبينٌ لكيفية التبوِئةِ أي تبنون في سهولها قصوراً رفيعةً أو تبنون من سهولة الأرض بما تعملون منها من الرِهْص{[282]} واللِبن والآجُرّ { وتنحِتون الجبال } أي الصخورَ وقرئ تنحَتون بفتح الحاء وتنحاتون بإشباع الفتحة كما في قوله : [ الكامل ]

ينباعُ من ذِفْرَى أسيلٍ حرّةٍ *** [ مشدودةٍ مثل الفنيق المُقرمِ ]{[283]}

والنحتُ نجْرُ الشيءِ الصُّلب ، فانتصابُ الجبالِ على المفعولية وانتصابُ قوله تعالى : { بيوتاً } على أنها حالٌ مقدرةٌ منها كما تقول : خِطْتُ هذا الثوبَ قميصاً ، وقيل : انتصابُ الجبالِ على إسقاط الجار أي من الجبال وانتصابُ بيوتاً على المفعولية ، وقد جوّز أن يُضمَّن النحتُ معنى الاتخاذِ فانتصابُهما على المفعولية ، وقيل : كانوا يسكُنون السهولَ في الصيف والجبالَ في الشتاء { فاذكروا آلاء الله } التي أنعم بها عليكم مما ذكر أو جميعَ آلائِه التي هذه من جملتها { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } فإن حقَّ آلائِه تعالى أن تُشكَرَ ولا تُهملَ ولا يُغْفلَ عنها فكيف بالكفر والعِثيِّ في الأرض بالفساد .


[282]:الرهص: الطين الذي يجعل بعضه على بعض فيبنى به.
[283]:ويروى: "غضوب جسرة" في موضع "أسيل حرّة". و"زيّافة" في موضع "مشدودة". والبيت لعنترة في ديوانه ص 204؛ والإنصاف 1/26؛ وخزانة الأدب 1/122؛ والخصائص 3/121؛ وسر صناعة الإعراب 1/388، ولسان العرب (غضب، بوع، نبع)، يقول الشاعر إن العرق ينبع (ينباع) من ذفرَى ناقته (والذفرى: العظم الشاخص خلف الأذن) الغضوب العبوس، والجرة الطويلة الضخمة المشدودة مثل الفنيق المقرم وهو الفحل المكرم من الإبل الذي لا يركب ولا يُهان.