اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعۡدِ عَادٖ وَبَوَّأَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورٗا وَتَنۡحِتُونَ ٱلۡجِبَالَ بُيُوتٗاۖ فَٱذۡكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ} (74)

قيل : لمَّا أهلك الله - تعالى - عاد عمرت ثمود بلادها ، وخلفوهم في الأرض ، وعمّروا أعماراً طوالاً .

قوله : { وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض } بوَّأه : أنزله منزلاً ، والمباءَةُ المنزل ، وتقدَّمت هذه المادة في " آل عمران " {[16435]} ، وهو يتعدى لاثنين ، فالثَّاني محذوف أي : بوَّأكم منازل .

و " فِي الأرْضِ " متعلّق بالفِعْلِ ، وذكرت ليبنى عليها ما يأتي بعدها من قوله : " تَتَّخِذُونَ " .

قوله : " تَتَّخِذُونَ " يجوز أن تكون المُتَعدية لواحد فيكون من سهولها متعلقاً بالاتخاذ ، أو بمحذوف على أنَّهُ حال من قصوراً إذ هو في الأصل صِفَةٌ لها لو تَأخَّر ، بمعنى أنَّ مادة القُصُور من سهل الأرض كالطّين واللّبن والآجر كقوله : { واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ } [ الأعراف : 148 ] [ أي مادته من الحلي ]{[16436]} .

وقيل : " مِنْ " بمعنى " في " . وفي التَّفسير أنَّهُم كانوا يسكنون في القُصُورِ صَيْفاً ، وفي الجبال شِتَاء ، وأن تكون المتعدية لاثنين ثانيهما " مِنْ سُهُولِهَا " والسهلُ من الأرض ما لان وسهل الانتفاع به ضد الحزن ، والسهولة : التّيسير .

قوله : " قُصُوراً " [ والقصور هو جمع قصر ]{[16437]} وهو البيت المُنِيفُ ، سُمِّي بذلك لقصور النَّاس عن الارتقاء إليه ، أو لأن عامة النَّاس يقصرون عن بناء مثله بخلاف خواصهم ، أو لأنَّهُ يقتصر به على بقعة من الأرض ، بخلاف بيوت الشّعر والعُمُد ، فإنَّهَا لا يقتصر بها على بقعة مخصوصة لارتحال أهلها ؛ أو لأنَّه يقصر من فيه أي : يحبسه ، ومنه : { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام } [ الرحمن : 72 ] .

قوله : { وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتاً } يجُوزُ أن يكون نصب " الجِبَالَ " على إسْقَاطِ الخافض أي : من الجبال ، كقوله : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] ، فتكون " بُيُوتاً " مفعوله .

ويجوز أن يُضَمَّن " تَنْحِتُونَ " معنى ما يتعدَّى لاثنين أي وتتخذون الجبال بُيُوتاً بالنحت أو تصيرونَها . [ بيوتاً بالنَّحت .

ويجوز أن تكون " الجبَالَ " هو المفعول به و " بُيُوتاً " حال مقدرة كقولك : خِطْ هذا الثَّوب جبة [ وابْرِ هذه القصبة قلماً ؛ وذلك لأن الجبال لا تكون بيتاً في حال النحت ، ولا الثوب ولا القصبة قميصاً وقلما في حالة الخياطة والبري ]{[16438]} ، أي : مُقَدّراً له كذلك ]{[16439]} و " بُيُوتاً " وإن لم تكن مشتقة فإنَّهَا في معناه أي : مسكونة .

وقرأ الحسنُ{[16440]} : " تَنْحَتُون " بفتح الحاء . وزاد الزَّمَخْشَرِيُّ أنه قرأ{[16441]} " تنحاتُونَ " بإشباع الفتحة [ ألفاً ] ، وأنشد : [ الكامل ]

يَنْبَاعُ مِنْ ذْفَرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ *** . . . {[16442]}

وقرأ يحيى{[16443]} بن مصرف وأبو مالكٍ بالياء من أسفل على الالتفات إلا أن أبا مالك فتح الحاء كقراءة الحسنِ .

والنَّحتُ : النَّجر في شيء صُلب كالحجر والخشبِ .

قال : [ البسيط ]

أمَّا النَّهَارُ فَفِي قَيْدٍ وسِلْسلَةٍ *** واللَّيْلُ فِي بَطْنِ مَنْحُوتٍ مِن السَّاجِ{[16444]}

فصل في جواز البناء الرفيع

قال القُرْطُبِي{[16445]} : استدلَّ بهذه الية من أجاز جواز البناء الرفيع كالقُصُور ونحوها ، وبقوله تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق } [ الأعراف : 32 ] . وبقوله عليه الصَّلاة والسلام : " إنَّ الله إذَا أنْعَمَ على عَبْدٍ نِعْمَةً يُحِبُّ أنْ يُرَى أثَرُ النِّعْمَةِ عليْهِ {[16446]} "

ومن آثار النعمة البناء الحسن ، والثياب الحسنة ، ألا ترى أنه لو اشترى جارية جميلة بمال عظيم ، فإنَّهُ يجوز ، وقد يكفيه دون ذلك ، فكذلك البناء ، وكرهه الحسن وغيره لقوله عليه الصَّلاة والسلام : " إذا أرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ سُوءاً أهْلَكَ مَالَهُ فِي الطِّيْنِ واللَّبنِ "

وقوله عليه الصلاة والسلام : " مَن بَنَى فوق مَا يَكْفِيْهِ جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ على عُنْقِهِ {[16447]} " ]{[16448]}

قوله : { فاذكروا آلاءَ الله } أي نعم الله عليكم .

{ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرض } قرأ{[16449]} الأعمش بكسر حرف المضارعة وقد تقدم أن ذلك لغة .

و " مُفْسِدِيْنَ " حال مؤكدة إذ معناها مفهوم من عَامِلِهَا .

و " فِي الأرْضِ " متعلق بالفعل قبله أو ب " مفسدين " .


[16435]:ينظر تفسير الآية 112 من سورة آل عمران.
[16436]:سقط من ب.
[16437]:سقط من ب.
[16438]:سقط من ب.
[16439]:سقط من أ.
[16440]:ينظر: الكشاف 2/122، والمحرر الوجيز 2/423، والبحر المحيط 4/332، والدر المصون 3/293.
[16441]:ينظر: الكشاف 2/122.
[16442]:تقدم.
[16443]:ينظر: المحرر الوجيز 2/423، والبحر المحيط 4/332، والدر المصون 3/293.
[16444]:تقدم.
[16445]:ينظر تفسير القرطبي 7/153.
[16446]:تقدم.
[16447]:أخرجه الطبراني في "الكبير" (1/187) وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/70) وقال: رواه الطبراني في الكبير وفيه المسيب بن واضح وثقه النسائي وضعفه جماعة.
[16448]:سقط من أ.
[16449]:ينظر: المحرر الوجيز 2/423، البحر المحيط 4/332، الدر المصون 3/293.