المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبِيۖ وَمَن يَحۡلِلۡ عَلَيۡهِ غَضَبِي فَقَدۡ هَوَىٰ} (81)

ويكون قوله تعالى : { كلوا } بتقدير قيل لهم كلوا ، وتكون الآية على هذا اعتراضاً في أثناء قصة موسى المقصد به توبيخ هؤلاء الحضور إذ لم يصبر سلفهم على أداء شكر نعم الله تعالى ، والمعنى الأول أظهر وأبين . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «نجينا وواعدنا ونزلنا ورزقناكم » إلا أن أبا عمرو قرأ «وعدناكم » بغير ألف في كل القرآن{[8139]} ، وقرأ حمزة والكسائي «أنجيت وواعدت ونزلنا ورزقتكم » . وقوله { وواعدناكم } قيل هي لغة في وعد لا تقتضي فعل اثنين ع وإن حملت على المعهود فلأن التلقي والعزم على ذلك كالمواعدة ، وقصص هذه الآية أن الله تعالى لما أنجى بني إسرائيل وغرق فرعون وعد بني إسرائيل وموسى أن يصيروا إلى جانب طور سيناء ليكلم فيه موسى ويناجيه بما فيه صلاحهم بأوامرهم ونواهيهم ، فلما أخذوا في السير تعجل موسى عليه السلام للقاء ربه حسبما يأتي ذكره ، وقالت فرقة هذا { الطور } هو الذي كلم فيه موسى أولاً حيث رأى النار وكان في طريقه من الشام إلى مصر ، وقالت فرقة ليس به و { الطور } الجبل الذي لا شعرا فيه{[8140]} وقوله { الأيمن } إما أن يريد اليمن وإما أن يريد اليمين بالإضافة إلى ذي يمين إنسان أو غيره . و { المن والسلوى } طعامهم ، وقد مضى في البقرة استيعاب تفسيرهما ، وقوله تعالى : { من طيبات } يريد الحلال الملك ، لأن المعنى في هذا الموضع قد جمعهما واختلف الناس ما القصد الأول بلفظة الطيب في القرآن ، فقال مالك رحمه الله الحلال ، وقال الشافعي ما يطيب للنفوس ، وساق إلى هذا الخلاف تفقههم في الخشاش{[8141]} والمستقذر من الحيوان . و { تطغوا } معناه تتعدون الحد وتتعسفون كالذي فعلوا ع . وقرأ جمهور الناس «فيحِل » بكسر الحاء «ومن يحلِل » بكسر اللام ، وقرأ الكسائي وحده{[8142]} «فيحُل » بضم الحاء «ومن يحلُل » بضم اللام فمعنى الأول فيجب ومعنى الثاني فيقع وينزل ، و { هوى } معناه سقط من علو إلى أسفل ومنه قول خنافر :

فهوى هوي العقاب . . . {[8143]} قال القاضي أبو محمد : وإن لم يكن سقوطاً فهو شبيه بالساقط والسقوط حقيقة قول الآخر : [ الوافر ]

هويّ الدلْو أسلمه الرشاء{[8144]} . . . ويشبه الذي وقع في طامة أو ورطة بعد أن كان بنجوة منها بالساقط فالآية من هذا أي «هوي » في جهنم وفي سخط الله ، وقيل أخذ الفعل من لفظ الهاوية وهو قعر جهنم .


[8139]:اختار أبو عبيد هذه القراءة، لأن الوعد إنما هو من الله تعالى لموسى خاصة، و "المواعدة" لا تكون إلا من اثنين، وابن عطية يرد على هذا حين ينقل عن بعضهم أن (واعد) لغة في (وعد)، وحين يقول: إن التلقي والعزم على العهد يقوم مقام المواعدة.
[8140]:الشعراء: الأرض أو الروضة الكثيرة الشجر. (المعجم الوسيط).
[8141]:الخشاش: حشرات الأرض، وفي الحديث الشريف: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض).
[8142]:لعله يريد: من السبعة، فقد ذكرت كتب التفسير أنها أيضا قراءة قتادة، وأبي حيوة، والأعمش، وطلحة.
[8143]:قال الصاغاني: خنافر مثل علابط اسم رجل كاهن، هو خنافر بن التوأم الحميري، وفي اللسان "هوى بالفتح يهوي هويا وهويا: سقط من فوق إلى أسفل، وهوت العقاب تهوي هويا إذا انقضت على صيد أو غيره ما لم ترغه، فإذا أراغته قيل: أهوت له إهواء، قال زهير: أهوى لها أسفع الحدين مطرق ريش القوادم لم ينصب له الشبك والإراغة أن يذهب الصيد هكذا وهكذا والعقاب تتبعه". والشاهد أن الهوي والهوي هو السقوط من أعلى إلى أسفل.
[8144]:هذا عجز بيت، ذكره صاحب اللسان في (هوى) شاهدا على أن الهوي بفتح الهاء إلى أسفل، وبضمها إلى فوق، يقال: هوى هويا بالفتح إذا هبط، وهوى هويا بالضم إذا صعد، ثم استشهد به مرة أخرى على أن الهوي بالضم هو العدو السريع، يقال: هوت الناقة هويا إذا عدت عدوا شديدا أرفع العدو، والبيت بتمامه: فشد بها الأماعز وهي تهوي هوي الدلو أرسله الرشاء ويروى: أسلمها الرشاء، وهي رواية اللسان، والرشاء: حبل الدلو الذي يحمله إلى أسفل وإلى أعلى. والدلو تذكر وتؤنث، والتأنيث أعلى وأكثر، هذا ولم ينسب صاحب اللسان البيت لأحد.