قوله تعالى : { فإن زللتم } . أي ضللتم ، وقيل : ملتم ، يقال : زلت قدمه تزل زلاً وزللاً ، إذا دحضت ، قال ابن عباس : يعني الشرك ، قال قتادة : قد علم الله أنه سيزل زالون من الناس فتقدم في ذلك وأوعد فيه ليكون لديه الحجة عليه .
قوله تعالى : { من بعد ما جاءتكم البينات } . أي الدلالات الواضحات .
قوله تعالى : { فاعلموا أن الله عزيز } . في نقمته .
قوله تعالى : { حكيم } . في أمره ، فالعزيز : هو الغالب الذي لا يفوته شيء ، والحكيم : ذو الإصابة في الأمر .
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 209 )
قرأ جمهور الناس «زلَلتم » بفتح اللام ، وقرأ أبو السمال «زلِلتم » بكسرها ، وأصل الزلل في القدم ثم يستعمل في الاعتقادات والآراء ويغير ذلك ، والمعنى ضللتم وعجتم( {[1953]} ) عن الحق ، و { البينات } محمد وآياته ومعجزاته إذا كان الخطاب أولاً لجماعة المؤمنين ، وإذا كان الخطاب لأهل الكتابين ، فالبينات ما ورد في شرائعهم من الإعلام بمحمد صلى الله عليه وسلم والتعريف به ، و { عزيز } صفة مقتضية أنه قادر عليكم لا تعجزونه ، ولا تمتنعون منه ، و { حكيم } أي محكم فيما يعاقبكم به لزللكم .
وحكى النقاش أن كعب الأحبار لما أسلم كان يتعلم القرآن ، فأقرأه الذي كان يعلمه : فاعلموا أن الله غفور رحيم ، فقال كعب : إني لأستنكر( {[1954]} ) أن يكون هكذا ، ومر بهما رجل ، فقال كعب : كيف تقرأ هذه الآية ؟ فقرأ الرجل : { فاعلموا أن الله عزيز حكيم } ، فقال كعب : هكذا ينبغي( {[1955]} ) .
قوله تعالى : { فإن زللتم من بعد ما جاءكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم } تفريع على النهي أي فإن اتبعتم خطوات الشيطان فزللتم أو فإن زللتم فاتبعتم خطوات الشيطان وأراد بالزلل المخالفة للنهي .
وأصل الزلل الزلَق أي اضطراب القدَم وتحركها في الموضع المقصود إثباتها به ، واستعمل الزلل هنا مجازاً في الضُّر الناشىء عن اتباع الشيطان من بناءِ التمثيل على التمثيل ؛ لأنه لما شبهت هيئة من يعمل بوسوسة الشيطان بهيئة الماشي على أثر غيره شبه ما يعتريه من الضر في ذلك المشي بزلل الرجل في المشي في الطريق المزلقة ، وقد استفيد من ذلك أن ما يأمر به الشيطان هو أيضاً بمنزلة الطريق المزلقة على طريق المكنية وقوله : { زللتم } تخييل وهو تمثيلية فهو من التخييل الذي كان مجازاً والمجاز هنا في مركبه .
والبينات : الأدلة والمعجزات ومجيئها ظهورها وبيانها ، لأن المجيء ظهور شخص الجائي بعد غيبته .
وجيء في الشرط بإنْ لندرة حصول هذا الزلل من الذين آمنوا أو لعدم رغبة المتكلم في حصوله إن كان الخطاب لمن آمن بظاهره دون قلبه . وفيه إشارة إلى أن ما خامر نفوسهم من كراهية الصلح هو زلة عظيمة . وقوله : { فاعلموا أن الله عزيز حكيم } جواب الشرط ، و { أن الله عزيز حكيم } ، مفعول { اعلموا } ، والمقصود علم لازمه وهو العقاب .
والعزيز فعيل من عز إذا قوي ولم يُغْلب ، وأصله من العزة وقد مر الكلام عليه عند قوله { أَخذته العزة } [ البقرة : 206 ] وهو ضد ، فكان العلم بأنه تعالى عزيز مستلزماً تحققهم أنه معاقبهم لا يفلتهم ، لأن العزيز لا ينجو من يناوئه .
والحكيم يجوز أن يكون اسم فاعل من حكم أي قوي الحكم ، ويحتمل أنه المحكم للأمور فهو من مجيء فَعِيل بمعنى مُفعل ، ومناسبته هنا أن المتقن للأمور لا يفلت مستحق العقوبة ، فالكلام وعيد وإلاّ فإن الناس كلهم يعلمون أن الله عزيز حكيم .
ولك أن تجعل قوله : { فاعلموا } تنزيلاً لعلمهم منزلة العدم لعدم جريهم على ما يقتضيه من المبادرة إلى الدخول في الدين أو لمخالفة أحكام الدين أو من الامتعاض بالصلح الذي عقده الرسول .
وإنما قال تعالى : { من بعد ما جاءتكم البينات } إعذار لهم ، وفيه إشارة إلى أنهم يجب عليهم تفويض العلم إلى الله الذي أوحى إلى رسوله بإبرام الصلح مع المشركين ، لأنه ما أوحاه الله إلاّ لمصلحة وليس ذلك بوهن للمسلمين ، لأن الله عزيز لا يهن لأحد ، ولأنه حكيم يضع الأمور في مواضعها ، ويختار للمسلمين ما فيه نصر دينه وقد رأيتم البينات الدالةَ على عناية الله برسوله وأنه لا يخزيه ولا يضيع أمره ومن تلك البينات ما شاهدوه من النصر يوم بدر .
وإن كان المراد الدخولَ في الإسلام أو الدوامَ عليه فالمعنيُّ : بـِ ( فإن زللتم ) : الاتصاف بما ينافي الأمر بالدخول في السّلم ، والمراد بالبينات المعجزاتُ الدالة على صدق الرسول ، نقل الفخر عن « تفسير القاضي عبد الجبار » دلت الآية على أن المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلاّ بعد البيان وأن المؤاخذة تكون بعد حصول البينات لا بعد حصول اليقين من المكلف ، لأنه غير معذور في عدم حصول اليقين إن كانت الأدلة كافية .
وفي « الكشاف » روي أن قارئاً قرأ هذه الآية فإن الله غفور رحيم فسمعه أعرابي فأنكره وقال لا يقول الحكيم كذا لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه اهـ وفي القرطبي عن « تفسير النقاش » نسبة مثل هذه القصة إلى كعب الأحبار ، وذكر الطيبي عن الأصمعي قال كنت أقرأ : والسارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله غفور رحيم ، وبجنبي أعرابي فقال كلامُ مَنْ هذا ؟ قلت كلامُ الله ، قال : ليس هذا كلامُ الله فانتبهتُ فقرأت { والله عزيز حكيم } [ المائدة : 38 ] فقال أصبتَ هذا كلام الله فقلت أتقرأ القرآن ؟ قال لا قلتُ من أين علمت ؟ قال يا هذا عَزَّ فَحَكَم فقطعَ ولو غَفر ورَحم لَمَا قَطَع .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.