معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (207)

قوله تعالى : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله } . أي لطلب رضاء الله تعالى .

قوله تعالى : { والله رؤوف بالعباد } . روي عن ابن عباس والضحاك : أن هذه الآية نزلت في سرية الرجيع ، وذلك أن كفار قريش بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة ، إنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك يعلموننا دينك ، وكان ذلك مكراً منهم ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خبيب بن عدي الأنصاري ، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي ، وخالد بن بكير ، وعبد الله بن طارق بن شهاب البلوي ، وزيد بن الدثنة ، وأمر عليهم عاصم ابن ثابت بن أبي الأفلح الأنصاري .

قال أبو هريرة : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة عيناً وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري ، فساروا فنزلوا ببطن مكة والمدينة ومعهم تمر عجوة فأكلوا فمرت عجوز فأبصرت النوى فرجعت إلى قومها بمكة وقالت : قد سلك هذا الطريق أهل يثرب من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فركب سبعون رجلاً ، منهم معهم الرماح حتى أحاطوا بهم ، قال أبو هريرة رضي الله عنه : ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان ، فتبعوهم بقريب من مائة رجل رام فاقتفوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزل نزلوه فقالوا : تمر يثرب ، فاتبعوا آثارهم ، فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد ، فأحاط بهم القوم فقتلوا مرثدا ، ً وخالداً وعبد الله بن طارق ، ونثر عاصم بن ثابت كنانته وفيها سبعة أسهم ، فقتل بكل سهم رجلاً من عظماء المشركين ثم قال : اللهم إني حميت دينك صدر النهار فاحك لحمي آخر النهار ، ثم أحاط به المشركون فقتلوه ، فلما قتلوه أرادوا حز رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد ، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها يوم أحد ، لئن قدرت على رأس عاصم لتشرين في قحفه الخمر ، فأرسل الله رجلاً من الدبر ، وهي الزنابير ، فحمت عاصماً فلم يقدروا عليه فسمي حمي الدبر ، فقالوا دعوه حتى تمسي فتذهب عنه فنأخذه فجاءت سحابة سوداء وأمطرت مطراً كالعزالي ، فيعث الله الوادي غديراً فاحتمل عاصماً به فذهب به إلى الجنة ، وحمل خمسين من المشركين إلى النار .

وكان عاصم قد أعطى الله تعالى عهداً أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبداً . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول حين بلغه أن الدبر منعته يقول : عجباً لحفظ الله المؤمن . أن عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبداً فمنعه الله بعد وفاته ، كما امتنع عاصم في حياته . وأسر المشركون خبيب بن عدي الأنصاري ، وزيد بن الدثنة ، فذهبوا بهما إلى مكة ، فأما خبيب فابتاعه بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف لقتلوه بأبيهم ، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر ، فلبث خبيب عندهم أسيراً حتى أجمعوا على قتله . فاستعار من بنات الحارث موسى ليستحد بها فأعارته ، فدرج بني لها وهي غافلة فما راع المرأة إلا خبيب قد أجلس الصبي على فخذه ، والموسى بيده ، فصاحت المرأة فقال خبيب : أتخشين أن أقتله ؟ ما كنت لأفعل ذلك ، إن الغدر ليس من شأننا ، فقالت المرأة بعد : والله ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب ، والله لقد وجدته يوماً يأكل قطفاً من عنب في يده وإنه لموثق بالحديد ، وما بمكة من ثمرة ، إن كان إلا رزقاً رزقه الله خبيباً ، ثم إنهم خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل وأرادوا أن يصلبوه ، فقال لهم خبيب : دعوني أصلي ركعتين ؟ فتركوه فكان خبيب هو أول من سن لكل مسلم قتل صبراً الصلاة ، فركع ركعتين ، ثم قال : لولا أن يحسبوا أن ما بي جزع لزدت ، اللهم أحصهم عدداً ، واقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً ثم أنشأ يقول :

فلست أبالي حين أقتل مسلماً *** على أي شق كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ *** يبارك على أوصال شلو ممزع

فصلبوه حياً ، فقال اللهم : إنك تعلم أنه ليس أحد حولي يبلغ سلامي رسولك فأبلغه سلامي ، ثم قام أبو سروعة عقبة بن الحرث فقتله . ويقال : كان رجل من المشركين يقال له ، سلامان أبو ميسرة ، معه رمح فوضعه بين ثديي خبيب ، فقال له خبيب : اتق الله فما زاده ذلك إلا عتواً فطعنه ، فأنفذه وذلك قوله عز وجل ( وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ) يعني سلامان .

وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف ، فبعثه مع مولى له يسمى نسطاس إلى التنعيم ليقتله بأبيه ، واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب ، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل : أنشدك الله يا زيد ، أتحب أن محمداً عندنا الآن بمكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك ؟ فقال : والله ما أحب أن محمداً صلى الله عليه وسلم الآن في مكانه الذي هو فيه يصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي . فقال أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً يحب أصحاب محمد محمداً ، ثم قتله نسطاس . فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخبر قال لأصحابه " أيكم ينزل خبيباً عن خشبته وله الجنة ؟ فقال الزبير : أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود ، فخرجا يمشيان بالليل ويكمنان بالنهار حتى أتيا التنعيم ليلاً ، وإذا حول الخشبة أربعون رجلاً من المشركين نائمون نشاوى ، فأنزلاه فإذا هو رطب ينثي لم يتغير منه شيء بعد أربعين يوماً ، ويده على جراحته وهي تبض دماً ، اللون لون دم والريح ريح المسك ، فحمله الزبير على فرسه وساروا ، فانتبه الكفار وقد فقدوا خبيباً ، فأخبروا قريشاً ، فركب منهم سبعون ، فلما لحقوهم قذف الزبير خبيباً فابتلعته الأرض ، فسمي بليع الأرض . فقال الزبير : ما جرأكم علينا يا معشر قريش ؟ ثم رفع العمامة عن رأسه وقال : أنا الزبير بن العوام ، وأمي صفية بنت عبد المطلب ، وصاحبي المقداد بن الأسود ، أسدان رابضان يدفعان عن شبليهما فإن شئتم ناضلتكم ، وإن شئتم نازلتكم ، وإن شئتم انصرفتم ، فانصروا إلى مكة ، وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عنده فقال يا محمد : إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك ، فنزل في الزبير والمقداد بن الأسود ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ) حين شريا أنفسهما لإنزال خبيب عن خشبته .

وقال أكثر المفسرين : نزلت في صهيب بن سنان الرومي حين أخذه المشركون في رهط من المؤمنين فعذبوهم ، فقال لهم صهيب : إني شيخ كبير ، لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم ، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني ؟ ففعلوا ، وكان شرط عليهم راحلة ونفقة ، فأقام بمكة ما شاء الله ثم خرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر في رجال ، فقال له أبو بكر : ربح بيعك يا أبا يحيى ، فقال له صهيب : وبيعك فلا تتحسر ، قال صهيب : ما لي ؟ فقال : قد أنزل الله فيك ، وقرأ هذه الآية . وقال سعيد بن المسيب وعطاء : أقبل صهيب مهاجراً نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من مشركي قريش ، فنزل عن راحلته ونثل ما كان في كنانته ، ثم قال : يا معشر قريش ، لقد علمتم أني لمن أرماكم رجلاً ، والله لا أضع سهماً مما في كنانتي إلا في قلب رجل منكم ، وايم الله ! لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي ، ثم افعلوا ما شئتم ، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي ، قالوا : نعم . ففعل ذلك ، فأنزل الله هذه الآية .

وقال الحسن : أتدرون فيمن نزلت هذه الآية ؟ نزلت في المسلم ، يلقى الكافر فيقول له قل : لا إله إلا الله ، فيأبى أن يقولها ، فقال المسلم : والله لأشرين نفسي لله . فتقدم فقاتل وحده حتى قتل . وقيل نزلت الآية في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر .

قال ابن عباس : أرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ، يقوم فيأمر هذا بتقوى الله ، فإذا لم يقبل ، وأخذته العزة بالإثم ، قال : وأنا أشري نفسي لله فقاتله فاقتتل الرجلان لذلك . . وكان علي إذا قرأ هذه الآية يقول : اقتتلا ورب الكعبة ، وقال أبو الخليل : سمع عمر بن الخطاب إنساناً يقرأ هذه الآية ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ) فقال عمر ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا عبد الرحمن بن شريح ، أخبرنا أبو القاسم البغوي ، أخبرنا علي بن الجعد أخبرني حماد بن سلمه عن أبي غالب عن أبي أمامه أن رجلاً قال : يا رسول الله أي الجهاد أفضل ؟ قال : أفضل الجهاد من قال كلمة حق عند سلطان جائر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (207)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ( 207 )

وقوله تعالى : { ومن الناس من يشري نفسه } الآية تتناول كل مجاهد في سبيل الله أو مستشهد في ذاته أو مغير منكر ، والظاهر من هذا التقسيم( {[1937]} ) أن تكون الآيات قبل هذه على العموم في الكافر بدليل الوعيد بالنار ويأخذ العصاة الذين فيهم شيء من هذا الخلق بحظهم من وعيد الآية ، ومن قال إن الآيات المتقدمة هي في منافقين تكلموا في غزوة الرجيع( {[1938]} ) قال : هذه الآية في شهداء غزوة الرجيع ، ومن قال تلك في الأخنس قال : هذه في الأنصار والمهاجرين المبادرين إلى الإيمان .

وقال عكرمة وغيره : هذه في طائفة من المهاجرين ، وذكروا حديث صهيب أنه خرج من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعته قريش لترده ، فنثر كنانته ، وقال لهم : تعلمون والله إني لمن أرماكم رجلاً ، والله لأرمينَّكم ما بقي لي سهم ، ثم لأضربن بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ، فقالوا له : لا نتركك تذهب عنا غنياً وقد جئتنا صعلوكاً ، ولكن دلنا على مالك ونتركك ، فدلهم على ماله وتركوه ، فهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال له : «ربح البيع أبا يحيى » ، فنزلت فيه هذه الآية( {[1939]} ) ، ومن قال قصد بالأول العموم قال في هذه كذلك بالعموم ، و { يشري } معناه يبيع ، ومنه { وشروه بثمن بخس }( {[1940]} ) [ يوسف : 20 ] ، ومنه قول يزيد بن مفرغ الحميري : [ مجزوء الكامل ]

وَشَريْتُ برداً لَيْتَنِي . . . مِنْ بَعْدِ برْدٍ كُنْتَ هَامَه( {[1941]} )

وقال الآخر : [ الكامل ]

يعطى بها ثمناً فَيَمْنَعُها . . . وَيَقُولُ صَاحِبُهُ أَلاَ تَشْرِي( {[1942]} )

ومن هذا تسمى الشراة( {[1943]} ) كأنهم الذين باعوا أنفسهم من الله تعالى ، وحكى قوم أنه يقال شرى بمعنى اشترى ، ويحتاج إلى هذا من تأول الآية في صهيب ، لأنه اشترى نفسه بماله ولم يبعها ، اللهم إلا أن يقال إن عزم صهيب على قتالهم بيع لنفسه من الله تعالى فتستقيم اللفظة على معنى باع .

وتأول هذه الآية عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم في مغيري المنكر ، ولذلك قال علي وابن عباس : اقتتل الرجلان ، أي قال المغير للمفسد : اتق الله ، فأبى المفسد وأخذته العزة ، فشرى المغير نفسه من الله تعالى وقاتله فاقتتلا .

وروي أن عمر بن الخطاب كان يجمع في يوم الجمعة شباباً من القرأة فيهم ابن عباس والحر بن قيس وغيرهما فيقرؤون بين يديه ومعه ، فسمع عمر ابن عباس رضي الله عنهم يقول : اقتتل الرجلان ، حين قرأ هذه الآية ، فسأله عما قال ، ففسر له هذا التفسير ، فقال له عمر : «لله تلادك( {[1944]} ) يا ابن عباس » .

وقال أبو هريرة وأبو أيوب حين حمل هشام بن عامر على الصف في القسطنطينية فقال قوم : ألقى بيده إلى التهلكة ، ليس كما قالوا ، بل هذا قول الله تعالى : { ومن الناس من يشري نفسه } الآية( {[1945]} ) .

و { ابتغاء } مفعول من أجله ، ووقف حمزة على { مرضاة } بالتاء والباقون بالهاء . قال أبو علي : «وجه وقف حمزة بالتاء إما أنه على لغة من يقول طلحت وعلقمت ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]

بل جوز تيهاء كظهر الحجفت( {[1946]} ) . . . وإما أنه لما كان المضاف إليه في ضمن اللفظة ولا بد أثبت التاء كما تثبت في الوصل ليعلم أن المضاف إليه مراد .

وقوله تعالى : { والله رؤوف بالعباد } ترجية تقتضي الحض على امتثال ما وقع به المدح في الآية كما في قوله تعالى : { فحسبه جهنم } تخويف يقتضي التحذير مما وقع به الذم في الآية .


[1937]:- قد تسعمل (الواو) في الكلام بمعنى التقسيم نحو: الكلمة اسم وفعل وحرف، والتقسيم هنا قوله تعالى قبل: [ومن الناس من يعجبك قوله] الآية وقوله تعالى بعد: [ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله] ولا يبعد أن يكون السبب خاصا والمراد عموم اللفظ.
[1938]:- غزوة الرجيع كانت بعد غزوة (أحد) في صفر سنة أربع، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية تتألف من عشرة أنفس وأمر عليها عاصم بن ثابت الأنصاري، والغرض منها معرفة أخبار قريش، فلما كانوا في الطريق لحقهم بنو لحيان من هذيل فقتلوا منهم سبعة أحدهم عاصم بن ثابت، وأسروا الباقين وهم خبيب بن عدي، وزيد بن الدثِنة بكسر المثلثة، وعبد الله بن طارق، فأما عبد الله فقتلوه في الحين لعدم استسلامه، وأما خبيب وزيد فباعوهما إلى قريش، وقتلت قريش خبيبا بعد أن صلى ركعتين وقال أبياته المشهورة: وَلَسْتُ أُبَالِي حِين أُقْتَلُ مُسْلِمــاً على أي جنب كانَ في الله مَصْرَعِي وذلك في ذاتِ الإله وإن يَشَــأ يُبَاركْ على أوْصال شِلْو مُمَــزَّع وخبيب الأنصاري هذا هو أول من سنّ الركعتين عند القتل بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وعاصم بن ثابت هذا هو الذي حمته الدبر أي جماعة النحل عندما أرسلت قريش من يقطع جسده فاجتمعت عليهم ذكور النحل ومنعتهم من القرب منه، رضي الله عنهم جميعا.
[1939]:- روى ذلك ابن جرير عن عكرمة، وابن مردويه عن أبي عثمان النهدي.
[1940]:- من الآية (20) من سورة (يوسف).
[1941]:- بُرْد: اسم غلام، وفيه أيضا قال الشاعر: وشرَيْتُ برداً ولولا ما تَكَنَّفَنِـي من الحوادث ما بِعتُه أبَـــداً
[1942]:- البيت للمسيب بن علس يصف الغائص وانتخابه الدّرة كما في شرح المقامات للشريسي، وقبل البيت: كجُمَـانَة البَحْريِّ جـاء بِهـا غوّاصُهَــا مِن لُجَّةِ البَحْــر نصف النهار الماءُ غَامِــرُهُ وشريكُـه بالغيبِ لا يَدــْري ومعنى: ألا تشري ؟ ألا تبيع ؟
[1943]:- الخوارج أو جماعة منهم سموا أنفسهم الشراة بمعنى أنهم باعوا أنفسهم من الله تعالى.
[1944]:- في لسان العرب من حديث عبد الله بن مسعود – آل حم من تلادي – أي من أول ما تعلمته بمكة. شبه ذلك بتلاد المال.
[1945]:- يعني أنها تتضمنه، وكثيرا ما يقولن: نزلت الآية في كذا، والمراد أنها تتضمنه وإن لم تكن قد نزلت فيه بالخصوص.
[1946]:- الحجفت: بتقديم الحاء على الجيم، وهي التُّرس إذا كان من الجلد، ومن العرب من إذا سكت على الهاء جعلها تاء. وقائل البيت سؤر الذئب – قاله يذكر محبوبته – وهو ضمن أبيات نذكرها لك: ما بالُ عَيْنٍ عَنْ كَرَاهَا قَدْ جَفَـتْ وشَفَّهَا مِنْ حُزْنِهَا ما كُلِّفَـتْ  كــأنَّ عُوَّاراً بِها أو طَرَّفَــتْ مُسْبِلَـة تَسْتَنُّ لمَّا عـرفَـتْ  دارٌ لِلَيْلَـى بعْد حـوْلٍ قدْ عَفَـتْ كأنَّها مهارقٌ قد زُخْـرفَـتْ  قـد تَبَّلَتْ إذا المهَا تَخَـوَّفــت بلْ ظهْرُ تَيْهاءَ كظهرِ الحْجفَتْ  قطعتُهـا إذا المهَــا تخوَّفَـتْ مَثَـارها إلى ذارها أهْدَفَـتْ  
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (207)

هذا قسيم { ومن الناس من يعجبك قوله } [ البقرة : 204 ] وذكره هنا بمنزلة الاستطراد استيعاباً لقسمي الناس ، فهذا القسم هو الذي تمحض فعله للخير حتى بلغ غاية ذلك وهو تعريض نفسه التي هي أنفس الأشياء عليه للهلاك لأجل تحصيل ما يرضي الله تعالى وإنما رضا الله تعالى بفعل الناس للخير الذي أمرهم به .

و ( يشري ) معناه يبيع كما أن يشتري بمعنى يبتاع وقد تقدم ذلك في قوله تعالى : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } [ البقرة : 41 ] . واستعمل ( يشري ) هنا في البذل مجازاً ، والمعنى ومن الناس من يبذل نفسه للهلاك ابتغاء مرضاة الله أي هلاكاً في نصر الدين وهذا أعلى درجات الإيمان ، لأن النفس أغلى ما عند الإنسان .

و { مرضاة الله } رضاه فهو مصدر رَضيَ على وزن المفعل زيدت فيه التاء سماعاً كالمَدْعاة والمَسْعاة ، في أسباب النزول قال سعيد بن المسيب نزلت في صهيب بن سنان النَّمرَى بن النمر بن قاسط الملقب بالرومي ؛ لأنه كان أسَرَه الرومُ في الجاهلية في جهات الموصل واشتراه بنو كلب فكان مولاهم وأثرى في الجاهلية بمكة وكان من المسلمين الأولين فلما هاجر النبي خرج صهيب مهاجراً فلحق به نفر من قريش ليوثقوه فنزل عن راحلته وانتثل كنانته وكان رامياً وقال لهم لقد علمتم أني من أرماكم وأَيْمُ الله لا تصلون إليَّ حتى أرمي بما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيءٌ فقالوا : لا نتركك تخرج من عندنا غنياً وقد جئتنا صعلوكاً ، ولكن دلنا على مالك وتخلي عنك وعاهدوه على ذلك فدلهم على ماله ، فلما قدم على النبي قال له حين رآه رَبِحَ البيعُ أيا يحْيى وتلا عليه هذه الآية ، وقيل إن كفار مكة عذَّبوا صهيباً لإسلامه فافتدى منهم بماله وخرج مهاجراً ، وقيل : غير ذلك ، والأظهر أنها عامة ، وأن صهيباً أو غيره ملاحظ في أول من تشمله .

وقوله { والله رؤوف بالعباد } تذييل أي رؤوف بالعباد الصالحين الذين منهم من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ، فالرأفة كناية عن لازمها وهو إيتاء الخيرات كالرحمة .

والظاهر أن التعريف في قوله ( العباد ) تعريف استغراق ، لأن الله رؤوف بجميع عباده وهم متفاوتون فيها فمنهم من تناله رأفة الله في الدنيا وفي الآخرة على تفاوت فيهما يقتضيه علم الله وحكمته ، ومنهم من تناله رأفة الله في الدنيا دون الآخرة وهم المشركون والكافرون ؛ فإن من رأفته بهم أنه أعطاهم العافية والرِّزق ، ويجوز أن يكون التعريف تعريف العهد أي بالعباد الذين من هذا القبيل أي قبيل الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله .

ويجوز أن يكون ( أَلْ ) عوضاً عن المضاف إليه كقوله { فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 41 ] ، والعباد إذا أضيف إلى اسم الجلالة يراد به عباد مقربون قال تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } في [ سورة الحجر : 42 ] .

ومناسبة هذا التذييل للجملة أن المخبر عنهم قد بذلوا أنفسهم لله وجعلوا أنفسهم عبيده فالله رءوف بهم كرأفة الإنسان بعبده فإن كان مَا صْدَق ( مَنْ ) عاماً كما هو الظاهر في كل من بذل نفسه لله ، فالمعنى والله رءوف بهم فعدل عن الإضمار إلى الإظهار ليكون هذا التذييل بمنزلة المثل مستقلاً بنفسه وهو من لوازم التذييل ، وليدل على أن سبب الرأفة بهم أنهم جعلوا أنفسهم عباداً له ، وإن كان ما صْدَق ( مَنْ ) صهيباً رضي الله عنه فالمعنى والله رءوف بالعباد الذين صهيب منهم ، والجملة تذييل على كل حال ، والمناسبة أن صهيباً كان عبداً للروم ثم لطائفة من قريش وهم بنو كلب وهم لم يرأفوا به ، لأنه عذب في الله فلما صار عبد الله رأف به .

وفي هذه الآية وهي قوله : { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } [ البقرة : 204 ] إلى قوله { رؤوف بالعباد } معان من معاني أدب النفوس ومراتبها وأخلاقها تعلِّم المؤمنين واجب التوسم في الحقائق ودواخل الأمور وعدم الاغترار بالظواهر إلاّ بعد التجربة والامتحان ، فإن من الناس من يغُر بحسن ظاهره وهو منطو على باطن سوء ويعطي من لسانه حلاوة تعبير وهو يضمر الشر والكيد قال المعري :

وقد يُخْلِفُ الإنسانُ ظَنَّ عَشِيرةٍ *** وإن رَاقَ منه مَنْظَرٌ ورُوَاء

وقد شمل هذا الحالَ قول النبي صلى الله عليه وسلم « إن من البيان لسحرا » بأحد معنييه المحتوي عليهما وهو من جوامع الكَلِم وتبلغ هلهلة دينه إلى حد أن يُشهد الله على أن ما يقوله صدق وهو بعكس ذلك يبيت في نفسه الخصام والكراهية .

وعلامة الباطن تكون في تصرفات المرء فالذي يحب الفساد ويهلك الحرث والنسل ولا يكون صاحب ضمير طيب ، وأن الذي لا يصغي إلى دعوة الحق إذا دعوته إليه ويظهر عليه الاعتزاز بالظلم لا يرعوي عن غيه ولا يترك أخلاقه الذميمة ، والذي لا يشح بنفسه في نصرة الحق ينبىء خلقه عن إيثار الحق والخير على الباطل والفساد ومن لا يرأف فالله لا يرأف به .