قوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } ، يقول : واذكر يا محمد إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم { فسجدوا إلا إبليس كان من الجن } ، قال ابن عباس : كان من حي من الملائكة يقال لهم الجن ، خلقوا من نار السموم . وقال الحسن : كان من الجن ولم يكن من الملائكة ، فهو أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس ، { ففسق } أي : خرج ، { عن أمر ربه } عن طاعة ربه { أفتتخذونه } يعني يا بني آدم { وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو } أي : أعداء . روى مجاهد عن الشعبي قال : إني لقاعد يوماً إذ أقبل رجل فقال : أخبرني هل لإبليس زوجة ؟ قلت : إن ذلك العرس ما شهدته ، ثم ذكرت قوله تعالى : ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني ) ، فعلمت أنه لا تكون الذرية إلا من الزوجة ، فقلت : نعم . وقال قتادة : يتوالدون كما يتوالد بنو آدم . وقيل : إنه يدخل ذنبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين . قال مجاهد : من ذرية إبليس لاقيس وولهان ، وهما صاحبا الطهارة والصلاة ، والهفاف و مرة وبه يكنى ، وزلنبور وهو صاحب الأًسواق ، يزين اللغو والحلف الكاذبة ومدح السلع ، وثبر وهو صاحب المصائب يزين خمش الوجوه ولطم الخدود وشق الجيوب ، والأعور وهو صاحب الزنا ينفخ في إحليل الرجل وعجز المرأة ، ومطوس وهو صاحب الأخبار الكاذبة يلقيها في أفواه الناس ، لا يجدون لها أصلاً ، وداسم وهو الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره من المتاع ما لم يرفع أو يحتبس موضعه ، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه . قال الأعمش : ربما دخلت البيت ولم أذكر اسم الله ولم أسلم ، فرأيت مطهرة فقلت ارفعوا هذه وخاصمتهم ، ثم أذكر اسم الله فأقول : داسم داسم . وروي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان . فاتقوا وسواس الماء " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنبأنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا يحيى بن خلف الباهلي ، أنبأنا عبد الأعلى ، عن سعيد الحريري ، عن أبي العلاء ، أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي ، يلبسها علي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك شيطان يقال له خنزب ، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه ، واتفل عن يسارك ثلاثاً ففعلت ذلك فأذهبه الله عني .
وأخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه ، فأدناهم منه منزلةً أعظمهم فتنةً ، يجيء أحدهم فيقول : فعلت كذا وكذا ، فيقول : ما صنعت شيئاً ، قال : ثم يجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته ، قال : فيدنيه منه ، ويقول : نعم أنت " . قال الأعمش : أراه قال : فيلتزمه . قوله تعالى : { بئس للظالمين بدلاً } ، قال قتادة : بئس ما استبدلوا طاعة إبليس وذريته بعبادة ربهم .
{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس } كرره في مواضع لكونه مقدمة للأمور المقصود بيانها في تلك المحال ، وها هنا لما شنع على المفتخرين واستقبح صنيعهم قرر ذلك بأنه من سنن إبليس ، أو لما بين حال المغرور بالدنيا والمعرض عنها وكان سبب الاغترار بها حب الشهوات وتسويل الشيطان . زهدهم أولا في زخارف الدنيا بأنها عرضة الزوال والأعمال الصالحة خير وأبقى من أنفسها وأعلاها ، ثم نفرهم عن الشيطان بتذكير ما بينهم من العداوة القديمة وهكذا مذهب كل تكرير في القرآن . { كان من الجنّ } حال بإضمار قد أو استئناف للتعليل كأنه قيل : ما له لم يسجد فقيل كان من الجن . { ففسق عن أمر ربه } فخرج عن أمره بترك السجود والفاء للسبب ، وفيه دليل على أن الملك لا يعصى البتة وإنما عصى إبليس لأنه كان جنياً في أصله والكلام المستقصى فيه في سورة " البقرة " . { أفتتخذونه } أعقيب ما وجد منه تتخذونه والهمزة للإنكار والتعجب . { وذرّيته } أولاده أو أتباعه ، وسماهم ذرية مجازاً . { أولياء من دوني } فتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي . { وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً } من الله تعالى إبليس وذريته .
عطف على جملة { ويوم نسير الجيال } [ الكهف : 47 ] بتقدير : واذكر إذ قلنا للملائكة ، تفننا لغرض الموعظة الذي سيقت له هذه الجمل ، وهو التذكير بعواقب اتباع الهوى والأعراضُ عن الصالحات ، وبمداحض الكبرياء والعُجب واحتقار الفضيلة والابتهاج بالأعراض التي لا تكسب أصحابها كمالاً نفسياً . وكما وُعظوا بآخر أيام الدنيا ذُكروا هنا بالموعظة بأول أيامها وهو يوم خلق آدم ، وهذا أيضاً تمهيد وتوطئة لقوله : { ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم } الآية [ الكهف : 52 ] ، فإن الإشراك كان من غرور الشيطان ببني آدم .
ولها أيضاً مناسبة بما تقدم من الآيات التي أنحت على الذين افتخروا بجاههم وأموالهم واحتقروا فقراء أهل الإسلام ولم يميزوا بين الكمال الحق والغرور الباطل ، كما أشار إليه قوله تعالى : { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } [ الكهف : 28 ] ، فكان في قصة إبليس نحو آدم مَثل لهم ، ولأن في هذه القصة تذكيراً بأن الشيطان هو أصل الضلال ، وأن خسران الخاسرين يوم القيامة آيل إلى اتباعهم خُطواتِ الشيطان وأوليائه . ولهذا فرع على الأمرين قوله تعالى : { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو } .
وهذه القصة تكررت في مواضع كثيرة من القرآن ، وهي في كل موضع تشتمل على شيء لم تشتمل عليه في الآخر ، ولها في كل موضع ذُكرت فيه عبرة تخالف عِبرة غيره ، فذكرها في سورة البقرة ( مَثلاً ) إعلام بمبادىء الأمور ، وذكرها هنا تنظير للحال وتوطئة للإنكار والتوبيخ ، وقس على ذلك .
وفَسق : تجاوز عن طاعته . وأصله قولهم : فسقت الرُّطبَة ، إذا خرجت من قشرها فاستعمل مجازاً في التجاوز . قال أبو عبيدة . والفسق بمعنى التجاوز عن الطاعة . قال أبو عبيدة : « لم نسمع ذلك في شيء من أشعار الجاهلية ولا أحاديثها وإنما تكلم به العرب بعد نزول القرآن » ، أي في هذه الآية ونحوها . ووافقه المبرد وابن الأعرابي . وأطلق الفسق في مواضع من القرآن على العصيان العظيم ، وتقدم في سورة البقرة ( 26 ) عند قوله تعالى : { وما يضل به إلا الفاسقين .
والأمر في قوله : { عن أمر ربه } بمعنى المأمور ، أي ترك وابتعد عما أمره الله به .
والعدول في قوله : { عن أمر ربه } إلى التعريف بطريق الإضافة دون الضمير لتفظيع فسق الشيطان عن أمر الله بأنه فسق عبد عن أمر من تجب عليه طاعته لأنه مالكه .
وفرع على التذكير بفسق الشيطان وعلى تعاظمه على أصل النوع الإنساني إنكار اتخاذه واتخاذ جنده أولياء لأن تكبره على آدم يقتضي عداوته للنوع ، ولأن عصيانه أمر مالكه يقتضي أنه لا يرجى منه خير وليس أهلاً لأن يُتبع .
والاستفهام مستعمل في الإنكار والتوبيخ للمشركين ، إذ كانوا يعبدون الجن ، قال تعالى : { وجعلوا لله شركاء الجن } [ الأنعام : 100 ] . ولذلك علل النهي بجملة الحال وهي جملة { وهم لكم عدو } .
والذرية : النسل ، وذرية الشيطان الشياطين والجن .
والعدو : اسم يصدق على الواحد وعلى الجمع ، قال تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } [ الممتحنة : 1 ] وقال : { هم العدو } [ المنافقون : 4 ] .
عومل هذا الاسم معاملة المصادر لأنه على زنة المصدر مثل القبول والوَلُوع ، وهما مصدران . وتقدم عند قوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم } في سورة النساء ( 92 ) .
والولي : من يُتولَّى ، أي يتخذ ذا وَلاية بفتح الواو وهي القرب . والمراد به القرب المعنوي ، وهو الصداقة والنسب والحلف . و ( من ) زايدة للتوكيد ، أي تتخذونهم أولياء مباعدين لي . وذلك هو إشراكهم في العبادة ، فإن كل حالة يعبدون فيها الآلهة هي اتخاذٌ لهم أولياء من دون الله .
والخطاب في { أتتخذونه } وما بعده خطاب للمشركين الذين اتخذوه ولياً ، وتحذير للمسلمين من ذلك .
وجملة { بئس للظالمين بدلاً } مستأنفة لإنشاء ذم إبليس وذريته باعتبار اتخاذ المشركين إياهم أولياء ، أي بئس البَدل للمشركين الشيطان وذريته ، فقوله : { بدلاً } تمييز مفسر لاسم ( بئس ) المحذوف لقصد الاستغناء عنه بالتمييز على طريقة الإجمال ثم التفصيل .
والظالمون هم المشركون . وإظهار الظالمين في موضع الإضمار للتشهير بهم ، ولما في الاسم الظاهر من معنى الظلم الذي هو ذم لهم .