تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلۡجِنِّ فَفَسَقَ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِۦٓۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّيَّتَهُۥٓ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمۡ لَكُمۡ عَدُوُّۢۚ بِئۡسَ لِلظَّـٰلِمِينَ بَدَلٗا} (50)

{ وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ( 50 ) ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ( 51 ) ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا ( 52 ) ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا ( 53 ) }

المفردات :

فسق : خرج .

أفتتخذونه : الهمزة في مثل هذا تنفيذ : الإنكار والتعجب ممن يفعل ذلك .

الذرية : الأولاد أو الأتباع .

عدو : يطلق على الواحد والكثير ؛ كما قال تعالى : { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } . ( الشعراء : 77 ) .

50

التفسير :

50- { وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه . . . }

الملائكة أجسام من نور لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، وقد أمر الله الملائكة بالسجود لآدم ؛ سجود تحية وتعظيم لا سجود عبادة ، وقد استجابت الملائكة لأمر الله وامتثلت وسجدت لآدم ، وكان إبليس مقيما مع الملائكة فنسب إليهم ، وعندما أمر الجميع بالسجود ، أطاعت الملائكة ، أما إبليس فخانه أصله ؛ لأنه خلق من مارج من نار ؛ ولذلك تكبر وامتنع ، ظانا أنه من نار ، وآدم من طين .

وفي القرآن الكريم : { قال أنا خير من خلقتني من نار وخلقته من طين } . ( ص : 76 ) .

وما علم أن النار خائنة تحرق ما يوضع فيها ، والطين أمين ، ينبت النبات إذا وضع فيه ، وقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة مرفوعا ( خلق الملائكة من نور ، وخلق إبليس من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم )42 .

وهذه الآية صريحة في أن إبليس كان من الجن لا من الملائكة .

روى ابن جرير بإسناد صحيح عن الحسن البصري قال : ( ما كان إبليس من الملائكة ‌طرفة عين قط ، وإنه لأصل الجن ، كما أن آدم عليه السلام أصل البشر ) .

{ ففسق عن أمر ربه } . أي : خرج عن أمر ربه ، وفسق وكفر ؛ لأنه كان من الجن ، من مارج من نار ، فغلب عليه أصله .

يقال : فسقت الرطبة ؛ إذا خرجت من أكمامها ، وفسقت الفأرة من جحرها ؛ إذا خرجت منه للعبث والفساد .

{ أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو . . . }

أي : كيف تستبدلون بمن خلقكم ورزقكم ، وأمدكم بسائر النعم ، من لم يكن لكم منه منفعة قط ، بل هو عدو لكم يترقب حصول ما يضركم .

{ بئس للظالمين بدلا } .

أي : بئس البدل للكافرين بالله ؛ اتخاذ إبليس وذريته أولياء من دونه ، وهو المنعم عليهم وعلى أبيهم آدم من قبلهم .

والخلاصة : بئست عبادة الشيطان ، بدلا من عبادة الرحمان !

وقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم حيث حذر الله الناس من طاعة إبليس ، وبين أنه عدو للإنسان ، وقد أخرج أبانا آدم من الجنة ؛ فوجب أن نتخذه عدوا ، ولا ننخدع بوسوسته .

قال تعالى : { ألم أعهد لكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين . وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم . ولقد أضل منكم جبلاّ كثيرا أفلم تكونوا تعقلون } . ( يس : 62 ، 60 ) .

وقال تعالى : { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير } . ( فاطر : 6 ) .

وآخر سورة في القرآن الكريم ، فيها دعوة إلى لجوء المؤمن وتحصنه برب الناس وخالقهم ، وملك الناس ، وإله الناس ، المستحق وحده للعبادة ، من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس للإنسان بالشر ويدعوه إليه ؛ فإذا ذكر المؤمن ربه ؛ خنس الشيطان ورجع . وللشيطان أتباع وأعوان من الجن ، وأتباع وأعوان من الإنس ، ونحن نتحصن ونلجأ ، ونستعيذ بالله من الشياطين والإنس والجن .

قال تعالى : { قل أعود بربّ الناس . ملك الناسّ . إله الناسّ . من شرّ الوسواس الخنّاس . الذي يوسوس في صدور الناس . من الجنة والنّاس } . ( الناس : 6 ، ‍‍1 ) .

وإن الإنسان لا يأسف ويتحسر ، أن نجد بيننا فريقا من الشباب يدّعي : أنه من عبدة الشيطان ، وكتاب الله يدعونا أن نحذر الشيطان ، وأن نستعيذ بالله منه ، وأن نعتصم بإيماننا بالله ؛ حتى لا يجد الشيطان سبيلا إلى التسلط علينا .

قال تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } . ( الأعراف : 201 ) .

وقال عز شأنه : { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون . إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون } ( النحل : 100 ، 99 ) .

وفي يوم القيامة يدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، ويلوم أهل النار إبليس ؛ لأنه أغواهم وغرر بهم ؛ فيخطب فيهم الشيطان خطبة بتراء ؛ يجرد نفسه من المسؤولية ، يلقي التبعة على من انجرف وراء دعوته ، وقد خلق الله للإنسان عقلا ورأيا ، وإرادة واختيارا ؛ حتى يتحمل المسؤولية في اختياره .

قال تعالى : { وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمسرخكم وما أنتم بمصرخي . . . } ( إبراهيم : 22 ) .