قوله : { وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ } الآية .
اعلم أنَّ المقصود في الآياتِ المتقدِّمة الردُّ على الذين افتخروا بأموالهم ، وأعوانهم على فقراء المسلمين ، وهذه الآية المقصود من ذكرها عين هذا المعنى ؛ وذلك : أنَّ إبليس ، إنما تكبَّر على آدم ؛ لأنَّه افتخر بأصله ونسبه ، فقال : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 13 ] فأنا أشرف منه أصلاً ونسباً ، فكيف أسجد له ، وكيف أتواضع له ؟ وهؤلاء المشركون عاملوا فقراء المؤمنين بهذه المعاملة ، فقالوا : كيف نجالسُ هؤلاء الفقراء ، مع أنَّا من أنساب شريفة ، وهم من أنساب نازلة ، ونحن أغنياء ، وهم فقراء ؟ فذكر الله هذه القصة ؛ تنبيهاً على أنَّ هذه الطريقة بعينها طريقة إبليس ، ثم إنه تعالى حذَّر عنها ، وعن الاقتداء بها في قوله : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ } ، وهذا وجه النظم .
قوله : { وَإِذَا قُلْنَا } : أي : اذكر .
قوله : { كَانَ مِنَ الجن } فيه وجهان :
أحدهما : أنه استئناف يفيد التعليل ؛ جواباً لسؤال مقدَّر .
والثاني : أن الجملة حالية ، و " قَدْ " معها مرادة ، قاله أبو البقاء{[21143]} .
قوله : " فَفسَقَ " السببية في الفاء ظاهرة ، تسبَّب عن كونه من الجنِّ الفسقُ ، قال أبو البقاء{[21144]} : إنما أدخل الفاء هنا ؛ لأنَّ المعنى : " إلاَّ إبليس امتنع ففسق " . قال شهاب الدين . إن عنى أنَّ قوله " كان من الجنِّ " وضع موضع قوله " امْتنعَ " فيحتمل مع بُعده ، وإن عنى أنه حذف فعلٌ عطف عليه هذا ، فليس بصحيحٍ ؛ للاستغناء عنه .
قوله : " عَنْ أمْر " " عَنْ " على بابها من المجاوزة ، وهي متعلقة ب " فَسقَ " ، أي : خرج مجاوزاً أمر ربِّه ، وقيل : هي بمعنى الباء ، أي : بسبب أمره ؛ فإنه فعَّالٌ لما يريدُ .
قوله : " وذُرِّيتهُ " يجوز في الواو أن تكون عاطفة ، وهو الظاهر ، وأن تكون بمعنى " مع " و " مِنْ دُونِي " يجوز تعلقه بالاتِّخاذ ، وبمحذوف على أنَّه صفة لأولياء .
قوله : { وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } جملة حالية من مفعول الاتخاذ أو فاعله ، لأن فيها مصححاً لكلٍّ من الوجهين ، وهو الرابط .
قوله : " بِئْسَ " فاعلها مضمرٌ مفسَّر بتمييزه ، والمخصوص بالذمِّ محذوف ، تقديره : بِئْسَ البدل إبليس وذرِّيتهُ . وقوله " للظَّالمينَ " متعلق بمحذوفٍ حالاً من " بَدلاً " وقيل : متعلق بفعل الذمِّ .
اعلم أنه تعالى بيَّن في هذه الآية أنَّ إبليس كان من الجنِّ ، وللنَّاس في الآية أقوالٌ :
الأول : قال ابن عبَّاس{[21145]} : كان من حيٍّ من الملائكةِ ، يقال لهم الحنُّ ، خلقوا من نار السَّموم ، وكونه من الملائكة لا ينافي كونه من الجنِّ ، لقوله : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً } [ الصافات : 158 ] وقوله : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن } [ الأنعام : 100 ] وسمِّي الجن جنًّا ؛ لاستتارهم ، والملائكة داخلون في ذلك .
وأيضاً : فإنه كان خازن الجنة ، فنسب إلى الجنَّة ؛ كقولهم : كوفيٌّ ، وبصريٌّ .
وعن سعيد بن جبير ، قال : كان من الجنَّانين الذين يعملون في الجنان ، وهم حيٌّ من الملائكة ، يصوغون حلية أهل الجنة منذ خلقوا{[21146]} .
رواه القاضي في تفسيره عن هشام عن سعيد بن جبيرٍ .
وقال الحسن : كان من الجنِّ ، ولم يكن من الملائكةِ ، فهو أصل الجنِّ ، كما أنَّ آدم أصل الإنس{[21147]} .
وقيل : كان من الملائكة ، فمسخ وغيَّر ، وكما يدلُّ على أنه ليس من الملائكة قوله تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي } والملائكة ليس لهم نسلٌ ، ولا ذرِّيَّة .
بقي أن يقال : لو لم يكن من الملائكة ، لما تناوله الأمر بالسجود ، فكيف يصحُّ استثناؤه منهم ؟ .
تقدَّم الكلام على ذلك في البقرة .
ثم قال تعالى : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } .
قال الفراء : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } ، أي : خرج من طاعته ، تقول العرب : فسقتِ الرطبة{[21148]} عن قشرها{[21149]} ، أي خرجت ، وسميت الفأرة فويسقة ؛ لخروجها من جحرها .
يَهْويْنَ في نَجْدٍ وغَوْراً غَائِرَا *** فَواسِقاً عَنْ قَصْدِهَا جَوائِرَا{[21150]}
وحكى الزجاج عن الخليل وسيبويه ، أنه قال : لما أمر فعصَى ، كان سبب فسقه هو ذلك الأمر ، والمعنى : أنه لولا ذلك الأمر السابق ، لما حصل ذلك الفسق ، فلهذا حسن أن يقال : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } كقوله : { واسأل القرية التي كُنَّا فِيهَا } [ يوسف : 82 ] .
ثم قال : " أفَتَتَّخِذُونَهُ " يعني : يا بني آدم { وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } ، أي : أعداء .
روى مجاهد عن الشعبيِّ قال : إنِّي قاعدٌ يوماً ؛ إذ أقبل رجل فقال : أخبرني ، هل لإبليس زوجة ؟ قال : إنَّه لعرسٌ ما شَهدتُّه ، ثُم ذكرتُ قول الله عزَّ وجلَّ : { أفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي } فعلمت أنَّه لا يكون ذريَّة إلا من زوجة ، فقلت ، نعم{[21151]} .
وقال قتادة : يتوالدون ، كما يتوالد بنو آدم{[21152]} .
وقيل : إنَّه يدخل ذنبه في دبره ، فيبيض ، فتنفلق البيضة عن جماعة من الشَّياطين .
ثم قال : { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } .
قال قتادة : بئس ما استبدلوا طاعة إبليس ، وذريته بعبادة ربِّهم{[21153]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.