اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلۡجِنِّ فَفَسَقَ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِۦٓۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّيَّتَهُۥٓ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمۡ لَكُمۡ عَدُوُّۢۚ بِئۡسَ لِلظَّـٰلِمِينَ بَدَلٗا} (50)

قوله : { وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ } الآية .

اعلم أنَّ المقصود في الآياتِ المتقدِّمة الردُّ على الذين افتخروا بأموالهم ، وأعوانهم على فقراء المسلمين ، وهذه الآية المقصود من ذكرها عين هذا المعنى ؛ وذلك : أنَّ إبليس ، إنما تكبَّر على آدم ؛ لأنَّه افتخر بأصله ونسبه ، فقال : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 13 ] فأنا أشرف منه أصلاً ونسباً ، فكيف أسجد له ، وكيف أتواضع له ؟ وهؤلاء المشركون عاملوا فقراء المؤمنين بهذه المعاملة ، فقالوا : كيف نجالسُ هؤلاء الفقراء ، مع أنَّا من أنساب شريفة ، وهم من أنساب نازلة ، ونحن أغنياء ، وهم فقراء ؟ فذكر الله هذه القصة ؛ تنبيهاً على أنَّ هذه الطريقة بعينها طريقة إبليس ، ثم إنه تعالى حذَّر عنها ، وعن الاقتداء بها في قوله : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ } ، وهذا وجه النظم .

قوله : { وَإِذَا قُلْنَا } : أي : اذكر .

قوله : { كَانَ مِنَ الجن } فيه وجهان :

أحدهما : أنه استئناف يفيد التعليل ؛ جواباً لسؤال مقدَّر .

والثاني : أن الجملة حالية ، و " قَدْ " معها مرادة ، قاله أبو البقاء{[21143]} .

قوله : " فَفسَقَ " السببية في الفاء ظاهرة ، تسبَّب عن كونه من الجنِّ الفسقُ ، قال أبو البقاء{[21144]} : إنما أدخل الفاء هنا ؛ لأنَّ المعنى : " إلاَّ إبليس امتنع ففسق " . قال شهاب الدين . إن عنى أنَّ قوله " كان من الجنِّ " وضع موضع قوله " امْتنعَ " فيحتمل مع بُعده ، وإن عنى أنه حذف فعلٌ عطف عليه هذا ، فليس بصحيحٍ ؛ للاستغناء عنه .

قوله : " عَنْ أمْر " " عَنْ " على بابها من المجاوزة ، وهي متعلقة ب " فَسقَ " ، أي : خرج مجاوزاً أمر ربِّه ، وقيل : هي بمعنى الباء ، أي : بسبب أمره ؛ فإنه فعَّالٌ لما يريدُ .

قوله : " وذُرِّيتهُ " يجوز في الواو أن تكون عاطفة ، وهو الظاهر ، وأن تكون بمعنى " مع " و " مِنْ دُونِي " يجوز تعلقه بالاتِّخاذ ، وبمحذوف على أنَّه صفة لأولياء .

قوله : { وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } جملة حالية من مفعول الاتخاذ أو فاعله ، لأن فيها مصححاً لكلٍّ من الوجهين ، وهو الرابط .

قوله : " بِئْسَ " فاعلها مضمرٌ مفسَّر بتمييزه ، والمخصوص بالذمِّ محذوف ، تقديره : بِئْسَ البدل إبليس وذرِّيتهُ . وقوله " للظَّالمينَ " متعلق بمحذوفٍ حالاً من " بَدلاً " وقيل : متعلق بفعل الذمِّ .

فصل في الخلاف في أصل إبليس

اعلم أنه تعالى بيَّن في هذه الآية أنَّ إبليس كان من الجنِّ ، وللنَّاس في الآية أقوالٌ :

الأول : قال ابن عبَّاس{[21145]} : كان من حيٍّ من الملائكةِ ، يقال لهم الحنُّ ، خلقوا من نار السَّموم ، وكونه من الملائكة لا ينافي كونه من الجنِّ ، لقوله : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً } [ الصافات : 158 ] وقوله : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن } [ الأنعام : 100 ] وسمِّي الجن جنًّا ؛ لاستتارهم ، والملائكة داخلون في ذلك .

وأيضاً : فإنه كان خازن الجنة ، فنسب إلى الجنَّة ؛ كقولهم : كوفيٌّ ، وبصريٌّ .

وعن سعيد بن جبير ، قال : كان من الجنَّانين الذين يعملون في الجنان ، وهم حيٌّ من الملائكة ، يصوغون حلية أهل الجنة منذ خلقوا{[21146]} .

رواه القاضي في تفسيره عن هشام عن سعيد بن جبيرٍ .

وقال الحسن : كان من الجنِّ ، ولم يكن من الملائكةِ ، فهو أصل الجنِّ ، كما أنَّ آدم أصل الإنس{[21147]} .

وقيل : كان من الملائكة ، فمسخ وغيَّر ، وكما يدلُّ على أنه ليس من الملائكة قوله تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي } والملائكة ليس لهم نسلٌ ، ولا ذرِّيَّة .

بقي أن يقال : لو لم يكن من الملائكة ، لما تناوله الأمر بالسجود ، فكيف يصحُّ استثناؤه منهم ؟ .

تقدَّم الكلام على ذلك في البقرة .

ثم قال تعالى : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } .

قال الفراء : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } ، أي : خرج من طاعته ، تقول العرب : فسقتِ الرطبة{[21148]} عن قشرها{[21149]} ، أي خرجت ، وسميت الفأرة فويسقة ؛ لخروجها من جحرها .

قال رؤبة : [ الرجز ]

يَهْويْنَ في نَجْدٍ وغَوْراً غَائِرَا *** فَواسِقاً عَنْ قَصْدِهَا جَوائِرَا{[21150]}

وحكى الزجاج عن الخليل وسيبويه ، أنه قال : لما أمر فعصَى ، كان سبب فسقه هو ذلك الأمر ، والمعنى : أنه لولا ذلك الأمر السابق ، لما حصل ذلك الفسق ، فلهذا حسن أن يقال : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } كقوله : { واسأل القرية التي كُنَّا فِيهَا } [ يوسف : 82 ] .

ثم قال : " أفَتَتَّخِذُونَهُ " يعني : يا بني آدم { وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } ، أي : أعداء .

روى مجاهد عن الشعبيِّ قال : إنِّي قاعدٌ يوماً ؛ إذ أقبل رجل فقال : أخبرني ، هل لإبليس زوجة ؟ قال : إنَّه لعرسٌ ما شَهدتُّه ، ثُم ذكرتُ قول الله عزَّ وجلَّ : { أفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي } فعلمت أنَّه لا يكون ذريَّة إلا من زوجة ، فقلت ، نعم{[21151]} .

وقال قتادة : يتوالدون ، كما يتوالد بنو آدم{[21152]} .

وقيل : إنَّه يدخل ذنبه في دبره ، فيبيض ، فتنفلق البيضة عن جماعة من الشَّياطين .

ثم قال : { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } .

قال قتادة : بئس ما استبدلوا طاعة إبليس ، وذريته بعبادة ربِّهم{[21153]} .


[21143]:ينظر: الإملاء 2/104.
[21144]:ينظر: الإملاء 2/104.
[21145]:ينظر: معالم التنزيل 3/166.
[21146]:تقدم.
[21147]:تقدم.
[21148]:في أ: القشرة.
[21149]:في أ: ربطها.
[21150]:ينظر الشطر الأول منه في ملحق ديوانه ص 190، وفيه "يذهبن" بدلا من "يهوين" ، ونسب للعجاج في الكتاب 1/94 وليس في ديوانه، وينظر: الرازي 21/116، وأساس البلاغة ص 431 (فسق)، وجواهر الأدب ص 33، والخصائص 2/434، والمحتسب 2/43، وشرح التصريح 1/288، وشرح شذور الذهب ص 431.
[21151]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/413) وعزاه إلى ابن المنذر والبغوي في "تفسيره" (3/166، 167.
[21152]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/413) وعزاه إلى ابن أبي الدنيا وأبي الشيخ عن قتادة . وأخرجه الطبري (8/238).
[21153]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/413) وعزاه إلى ابن أبي حاتم. وقد أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/238).