قوله تعالى :{ يطاف عليهم بصحاف } جمع صحفة وهي القصعة الواسعة ، { من ذهب وأكواب } جمع كوب وهو إناء مستدير مدور الرأس لا عرى لها ، { وفيها } يعني في الجنة ، { ما تشتهيه الأنفس } قرأ أهل المدينة والشام وحفص : { تشتهيه الأنفس } ، وكذلك في مصاحفهم ، وقرأ الآخرون بحذف الهاء . { وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون } أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن عبد الرحمن بن سابط قال : قال رجل : يا رسول الله أفي الجنة خيل ؟ فإني أحب الخيل ، فقال : " إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرساً من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت ، إلا فعلت ، وقال أعرابي : يا رسول الله أفي الجنة إبل ؟ فإني أحب الإبل ؟ فقال : " يا أعرابي إن يدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك " .
{ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ } أي : زبادي آنية الطعام ، { وَأَكْوَابٍ } وهي : آنية الشراب ، أي : من ذهب لا خراطيم لها ولا عُرَى ، { وَفِيهَا مَا تَشْهِي الأنْفُسُ } - وقرأ بعضهم : " تشتهيه
الأنفس " - { وَتَلَذُّ الأعْيُنُ } أي : طيب الطعم والريح وحسن المنظر .
قال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، أخبرني إسماعيل بن أبي سعيد{[26123]} ، عن{[26124]} عكرمة - مولى ابن عباس - أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة لرجل لا يدخل الجنة بعده أحد ، يفسح له في بصره مسيرة مائة عام في قصور من ذهب ، وخيام من لؤلؤ ، ليس فيها موضع شبر إلا معمور يغدى عليه ويراح بسبعين ألف صحفة من ذهب ، ليس فيها صحفة إلا فيها لون ليس في الأخرى ، مثله شهوته في آخرها كشهوته في أولها ، لو نزل به جميع أهل الأرض لوسع عليهم مما أعطي ، لا ينقص ذلك مما أوتي شيئا " {[26125]} .
وقال{[26126]} ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا عمرو بن سواد السرحي ، حدثنا عبد الله بن وهب ، عن ابن لهيعة ، عن عقيل بن خالد ، عن الحسن ، عن أبي هريرة : أن أبا أمامة ، رضي الله عنه ، حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم - وذكر الجنة - فقال : " والذي نفس محمد بيده ، ليأخذن أحدكم اللقمة فيجعلها في فيه ، ثم يخطر على باله طعام آخر ، فيتحول الطعام الذي في فيه على الذي اشتهى " ثم قرأ : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ{[26127]} الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } {[26128]} .
وقال{[26129]} الإمام أحمد : حدثنا حسن - هو ابن موسى - حدثنا سُكَيْن بن عبد العزيز ، حدثنا الأشعث الضرير ، عن شهر بن حَوْشَب ، عن أبي هريرة{[26130]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أدنى أهل الجنة منزلة إن له لسبع درجات ، وهو على السادسة وفوقه السابعة ، وإن له ثلثمائة خادم ، ويغدى عليه ويراح كل يوم بثلثمائة صحفة - ولا أعلمه إلا قال : من ذهب - في كل صحفة لون ليس في الأخرى ، وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره ، ومن الأشربة ثلاثمائة إناء ، في كل إناء لون ليس في الآخر ، وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره ، وإنه يقول : يا رب ، لو أذنت لي لأطعمت أهل الجنة وسقيتهم ، لم ينقص مما عندي شيء ، وإن له من الحور العين لاثنين وسبعين زوجة ، سوى أزواجه من الدنيا ، وإن الواحدة منهن ليأخذ مقعدها قدر ميل من الأرض " {[26131]} .
{ وَأَنْتُمْ فِيهَا } أي : في الجنة { خَالِدُونَ } أي : لا تخرجون منها ولا تبغون عنها حولا .
والأكواب : ضرب من الأواني كالأباريق ، إلا أنها لا آذان لها ولا مقابض .
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر وشيبة : «ما تشتهيه » بإثبات الهاء الأخيرة وكذلك في مصحف المدينة ومصاحف الشام ، وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم والجمهور : «ما تشتهي » بحذف الهاء ، وكذلك وقع في أكثر المصاحف وحذفها من الصلة لطول القول حسن ، وكذلك كثر في التنزيل كقوله تعالى : { أهذا الذي بعث الله } [ الفرقان : 41 ] وفي قوله : { وسلام على عباده الذين اصطفى } [ النمل : 58 ] وغير ذلك ، وفي مصحف ابن مسعود : «ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين » .
جملة { يطاف عليهم بصحاف } الخ معترضة بين أجزاء القول فليس في ضمير { عليهم } التفات بل المقام لضمير الغيبة .
والصحاف : جمع صحفة ، وهي : إناء مستدير واسع الفم ينتهي أسفله بما يقارب التكوير . والصحفة : إناء لوضع الطعام أو الفاكهة مثل صحاف الفغفوري الصيني تسَع شِبْع خمسة ، وهي دون القصعة التي تسع شِبْع عشرة . وقد ورد أن عمر بن الخطاب اتخذ صِحافاً على عدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فلا يؤتى إليه بفاكهة أو طُرْفَة إلا أرسل إليهن منها في تلك الصحاف .
والأكواب : جمع كُوب بضم الكاف وهو إناء للشراب من ماء أو خمر مستطيل الشكل له عنق قصير في أعلى ذلك العنق فمه وهو مصبّ ما فيه ، وفمه أضيق من جوفه ، والأكثر أن لا تكون له عروة يُمسَك منها فيمسك بوضع اليد على عنقه ، وقد تكون له عروة قصيرة ، وهو أصغر من الإبريق إلا أنه لا خرطوم له ولا عروة في الغالب . وأما الإبريق فله عروة وخرطوم .
وحذف وصف الأكواب لدلالة وصف صحاف عليه ، أي وأكواب من ذهب . وهذه الأكواب تكون للماء وتكون للخمر .
وجملة { وفيها ما تشتهيه الأنفس } الخ حال من { الجنة } ، هي من بقية القول .
وضمير { فيها } عائد إلى { الجنة } ، وقد عمّ قوله : { ما تشتهيه الأنفس } كلّ ما تتعلق الشهوات النفسية بنواله وتحصيله ، والله يخلق في أهل الجنة الشهوات اللائقة بعالم الخلود والسمو .
و { تَلَذُّ } مضارع لَذّ بوزن عَلِم : إذا أحسّ لذة ، وحق فعله أن يكون قاصراً فيعدّى إلى الشيء الذي به اللّذة بالباء فيقال : لذ به ، وكثر حذف الباء وإيصال الفعل إلى المجرور بنفسه فينتصب على نزع الخافض ، وكثر ذلك في الكلام حتى صار الفعل بِمَنزلة المتعدي فقالوا : لذّهُ . ومنه قوله هنا : { وتلذّ الأعين } التقدير ، وتلذُّهُ الأعين . والضمير المحذوف هو رابط الصلة بالموصول . ولذة الأعين في رؤية الأشكال الحسنة والألوان التي تنشرح لها النفس ، فلذّة الأعين وسيلة للذة النفوس فعطف { وتلَذّ الأعين } على { ما تشتهيه الأنفس } عطف ما بينه وبين المعطوف عليه عمومٌ وخصوص ، فقد تشتهي الأنفس ما لا تراه الأعين كالمحادثة مع الأصحاب وسماعِ الأصوات الحسنة والموسيقى . وقد تبصر الأعين ما لم تسبق للنفس شهوة رؤيتِه أو ما اشتهت النفس طعمه أو سمعه فيؤتى به في صور جميلة إكمالاً للنعمة . و { الأنفس } فاعل { تلَذّ } وحْذف المفعول لظهوره من المقام .
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر { ما تشتهيه } بهاء ضمير عائد إلى { ما } الموصولة وكذلك هو مرسوم في مصحف المدينة ومصحف الشام ، وقرأه البَاقون { ما تشتهي } بحذف هاء الضمير ، وكذلك رُسم في مصحف مكة ومصحف البصرة ومصحف الكوفة . والمروي عن عاصم قارىء الكوفة روايتان : إحداهما أخذ بها حفص والأخرى أخذ بها أبو بكر . وحذف العائد المتصل المنصوب بفعل أو وصف من صلة الموصول كثير في الكلام .
وقوله : { وأنتم فيها خالدون } بشارة لهم بعدم انقطاع الحَبْرة وسعة الرزق ونيل الشهوات ، وجيء فيه بالجملة الاسمية الدالة على الدوام والثبات تأكيداً لحقيقة الخلود لدفع توهم أن يراد به طول المدة فحسب .
وتقديم المجرور للاهتمام ، وعطف على بعض ما يقال لهم مقول آخر قُصد منه التنويه بالجنة وبالمؤمنين إذ أُعطوها بسبب أعمالهم الصالحة ، فأشير إلى الجنة باسم إشارة البعيد تعظيماً لشأنها وإلا فإنها حاضرة نصب أعينهم .