ثم إن الله تعالى : نهى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود ، فقال :{ يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } أي كفعل المنافقين واليهود ، وقال مقاتل أراد بقوله :{ آمنوا } المنافقين ، أي آمنوا بلسانهم ، قال عطاء : يريد الذين آمنوا بزعمهم ، قال لهم : لا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } ، { وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون } .
ثم قال الله مُؤدّبًا عباده المؤمنين ألا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ } أي : كما يتناجى به الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مَالأهم على ضلالهم من المنافقين ، { وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي : فيخبركم{[28404]} بجميع أعمالكم وأقوالكم التي أحصاها عليكم ، وسيجزيكم بها .
قال الإمام أحمد : حدثنا بَهْزُ وعفان قالا أخبرنا همام ، حدثنا قتادة ، عن صفوان بن مُحْرِز قال : كنت آخذًا بيد ابن عمر ، إذ عرض له رجل فقال : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة ؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كَنَفه ويستره من الناس ، ويقرره بذنوبه ، ويقول له : أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حتى إذا قَرّره بذنوبه ورأى في نفسه أن قد هلك ، قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم . ثم يُعْطَى كتابَ حسناته ، وأما الكفار{[28405]} والمنافقون فيقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة الله على الظالمين " ، أخرجاه في الصحيحين ، من حديث قتادة{[28406]} .
وصى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بأن لا يكون لهم تناج في مكروه ، وذلك عام في جميع الناس إلى يوم القيامة ، وخص «الإثم » بالذكر لعمومه ، { والعدوان } لعظمته في نفسه ، إذ هي ظلامات العباد ، وكذلك { معصية الرسول } ذكرها طعناً على المنافقين إذ كان تناجيهم في ذلك .
وقرأ جمهور الناس : «فلا تتناجوا » على وزن تتفاعلوا ، وقرأ ابن محيصن «تناجوا » بحذف التاء الواحدة ، وقرأ بعض القراء : «فلا تّناجوا » بشد التاء لأنها أدغمت التاء في التاء ، وقرأ الأعمش وأهل الكوفة : «فلا تنتجوا » على وزن تفتعلوا . والناس : على ضم العين من «العُدوان » ، وقرأها أبو حيوة بكسر العين حيث وقع . وقرأ الضحاك وغيره : «ومعصيات الرسول » على الجمع فيهما .
ثم أمر بالتناجي { بالبر والتقوى } ، وذكر بالحشر الذي معه الحساب ودخول أحد الدارين وقوله تعالى : { إنما النجوى } ، ليست { إنما } للحصر ولكنها لتأكيد الخبر .
خطاب للمنافقين الذين يظهرون الإِيمان فعاملهم الله بما أظهروه وناداهم بوصف الذين آمنوا كما قال : { من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } [ المائدة : 41 ] ومنه ما حكاه الله عن المشركين { وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } [ الحجر : 6 ] أي يأيها الذي نزل عليه الذكر بزعمه ، ونبههم إلى تدارك حالهم بالإِقلاع عن آثار النفاق على عادة القرآن من تعقيب التخويف بالترغيب . فالجملة استئناف ابتدائي .
ذلك أن المنافقين كانوا يعملون بعمل أهل الإِيمان إذا لَقُوا الذين آمنوا فإذا رجعوا إلى قومهم غلب عليهم الكفر فكانوا في بعض أحوالهم مقاربين الإِيمان بسبب مخالطتهم للمؤمنين . ولذلك ضرب الله لهم مثلاً بالنور في قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] ثم قوله : { كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا } [ البقرة : 20 ] . وهذا هو المناسب لقوله تعالى : { فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول } ، ويكون قوله : { وتناجوا بالبر والتقوى } تنبيهاً على ما يجب عليهم إن كانوا متناجين لا محالة .
ويجوز أن تكون خطاباً للمؤمنين الخلّص بأنْ وجه الله الخطاب إليهم تعليماً لهم بما يحسن من التناجي وما يقبح منه بمناسبة ذم تناجي المنافقين فلذلك ابتدىء بالنهي عن مثل تناجي المنافقين وإن كان لا يصدر مثله من المؤمنين تعريضاً بالمنافقين ، مثل قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } [ آل عمران : 156 ] ، ويكون المقصود من الكلام هو قوله : { وتناجوا بالبر والتقوى } تعليماً للمؤمنين .
والتقييد ب { إذا تناجيتم } يشير إلى أنه لا ينبغي التناجي مطلقاً ولكنهم لما اعتادوا التناجي حُذروا من غوائله ، وإلا فإن التقييد مستغنى عنه بقوله : « لا تتناجوا بالإِثم والعدوان » . وهذا مثل ما وقع في حديث النهي عن الجلوس في الطرقات من قوله صلى الله عليه وسلم « فإن كنتم فاعلين لا محالة فاحفظوا حَق الطريق » .
وقرأ الجمهور { فلا تتناجوا } بصيغة التفاعل . وقرأه رويس عن يعقوب وحده { فلا تنتجُوا } بوزن تَنْتَهُوا .
والأمر من قوله : { وتناجوا بالبر } مستعمل في الإِباحة كما اقتضاه قوله تعالى : { إذا تناجيتم } .
والإِثم والعدوان ومعصية الرسول تقدمت . وأما البرّ فهو ضد الإِثم والعدوان وهو يعم أفعال الخير المأمور بها في الدين .
و{ التقوى } : الامتثال ، وتقدمت في قوله تعالى : { هدى للمتقين } في سورة [ البقرة : 2 ] .
وفي قوله : { الذي إليه تحشرون } تذكير بيوم الجزاء . فالمعنى : الذي إليه تحشرون فيجازيكم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.