معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{كَلَّاۖ بَلۡۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ} (14)

{ كلا } قال مقاتل : أي لا يؤمنون ، ثم استأنف : { بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } .

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ، أنبأنا إبراهيم بن حزيم الشاشي ، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن حميد الكمتي ، حدثنا صفوان بن عيسى ، عن ابن عجلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها ، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه ، فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } " . وأصل الرين : الغلبة ، يقال : رانت الخمر على عقله ترين ريناً وريوناً إذا غلبت عليه حتى سكر . ومعنى الآية ، غلبت على قلوبهم المعاصي وأحاطت بها . قال الحسن : هو الذنب على الذنب حتى يموت القلب . قال ابن عباس : { ران على قلوبهم } : طبع عليها .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{كَلَّاۖ بَلۡۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ} (14)

قال الله تعالى : { كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : ليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا ، إن هذا القرآن أساطير الأولين ، بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرَّيْن الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا ؛ ولهذا قال تعالى : { كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } والرين يعتري قلوبَ الكافرين ، والغيم للأبرار ، والغين للمقربين .

وقد روى ابن جرير والترمذي والنسائي وابن ماجة من طرق ، عن محمد بن عَجْلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب منها صقل قلبه ، وإن زاد زادت ، فذلك قول الله : { كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }{[29850]} .

وقال الترمذي : حسن صحيح . ولفظ النسائي : " إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكِت في قلبه نكتة ، فإن هو نزع واستغفر وتاب صُقِل قلبه ، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه ، فهو الران الذي قال الله : { كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ }

وقال أحمد : حدثنا صفوان بن عيسى ، أخبرنا ابن عَجْلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر صُقِل قلبه ، فإن زاد زادت حتى تعلو قلبه ، وذاك الران الذي ذكر الله في القرآن : { كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } " {[29851]} .

وقال الحسن البصري : هو الذنب على الذنب ، حتى يعمى القلب ، فيموت . وكذا قال مجاهد ابن جبر وقتادة ، وابن زيد ، وغيرهم .


[29850]:- (5) تفسير الطبري (30/62) وسنن الترمذي برقم (3334) وسنن النسائي الكبرى برقم (11658) وسنن ابن ماجة برقم (4244).
[29851]:- (1) المسند (2/297).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{كَلَّاۖ بَلۡۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ} (14)

وقوله تعالى : { كلا } زجر ورد لقولهم : { أساطير الأولين } ، ثم أوجب أن ما كسبوا من الكفر والطغيان ، والعتو ، قد { ران على قلوبهم } ، أي غطى عليها وغلب فهم مع ذلك لا يبصرون رشداً ولا يخلص إلى قلوبهم خير ، ويقال : رانت الخمر على عقل شاربها وران الغش على قلب المريض ، وكذلك الموت ، ومنه قول الشاعر : [ الخفيف ]

ثم لما رآه رانت به الخمر وإن لا يرينه باتقاء{[11683]}*** والبيت لأبي زيد ، وقال الحسن وقتادة : الرين الذنب على الذنب حتى يموت القلب ، ويروى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن الرجل إذا أذنب صارت نقطة سوداء على قلبه ثم كذلك حتى يتغطى » فذلك الرين الذي قال الله تعالى : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون }{[11684]} وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : { بل ران } بإدغام في الراء ، وقرأ نافع : { بل ران } غير مدغمة ، وقرأ عاصم : { بل } ويقف ثم بيتدئ { ران } ، وقرأ حمزة والكسائي : الإدغام وبالإمالة في { ران } ، وقرأ نافع أيضاً : بالإدغام ، والإمالة ، قال أبو حاتم : القراءة بالفتح والإدغام ، وعلق اللوم بهم فيما كسبوه وإن كان ذلك يخلق منه واختراع لأن الثواب والعقاب متعلق بكسب العبد


[11683]:البيت في اللسان (ران) منسوبا لأبي زبيد، وقد استشهد به أبو عبيدة في (مجاز القرآن)، وهو في وصف سكران غلبت عليه الخمر، يقال: رانت به الخمر، أي غلبت على قلبه وعقله، وكل ما غلبك وعلاك فقد ران بك وران عليك.
[11684]:أخرجه أحمد، وعبد بن حميد، والحاكم، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه وابن جرير، وابن حبان، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{كَلَّاۖ بَلۡۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ} (14)

اعتراض بالردع وبيان له ، لأن { كلاّ } ردع لقولهم أساطير الأولين ، أي أن قولهم باطل . وحرف { بل } للإِبطال تأكيداً لمضمون { كلاّ } وبياناً وكشفاً لما حملهم على أن يقولوا في القرآن ما قالوا وأنه ما أعمى بصائرَهم من الرّيْن .

والرّين : الصدأ الذي يعلو حديدَ السيف والمِرآةِ ، ويقال في مصدر الرَّين الرانُ مثل العيب والعَاب ، والذيْم والذام .

وأصل فعله أن يسند إلى الشيء الذي أصابه الريْن ، فيقال : ران السيف وران الثوب ، إذا أصابه الريْن ، أي صار ذا رين ، ولما فيه من معنى التغطئة أطلق على التغطية فجاء منه فعل ران بمعنى غشي ، فقالوا : ران النعاس على فلان ، ورانت الخمر ، وكذلك قوله تعالى : { ران على قلوبهم } هو من باب رَان الرينُ على السيف ، وليس من باب رانَ السيفُ ، ومن استعمال القرآن هذا الفعل صار الناس يقولون : رِين على قلب فلان وفلان مَرينٌ على قلبه .

والمعنى : غَطَّت على قلوبهم أعمالهم أن يدخلها فهمُ القرآن والبوننِ الشاسِع بينه وبين أساطير الأولين .

وقرأ الجمهور بإدغام اللام في الراء بعد قلبها راء لتقارب مخرجيها .

وقرأه عاصم بالوقف على لام ( بل ) والابتداء بكلمة ران تجنباً للإدغام .

وقرأه حفص بسكتة خفيفة على لام { بل } ليبين أنها لام . قال في « اللسان » : إظهار اللام لغة لأهل الحجاز . قال سيبويه : هما حسنان ، وقال الزجاج : الإِدغام أرجح .

والقلوب : العقول ومَحالُّ الإِدراك . وهذا كقوله تعالى : { ختم اللَّه على قلوبهم } في سورة البقرة ( 7 ) .

ومن كلام رعاة الأعراب يخاطبون إبلهم في زمن شدة البرد إذا أوردوها الماءَ فاشمأزت منه لبرده بَرِّديهِ تَجديه سَخيناً أي بَلْ رديه وذلك من المُلَح الشبيهة بالمعاياة إذ في ظاهره طلب تبريده وأنه بالتبريد يوجد سخيناً .

و{ ما كانوا يكسبون } ما عملوه سالفاً من سيئات أعمالهم وجماحهم عن التدبر في الآيات حتى صار الإعراض والعناد خُلُقاً متأصلاً فيهم فلا تفهم عقولهم دلالة الأدلة على مدلولاتها .

روى الترمذي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكتت في قلبه نُكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر الله وتاب صُقِلَ قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه وهو الران الذي ذكر الله في كتابه : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح .

ومجيء { يكسبون } بصيغة المضارع دون الماضي لإفادة تكرر ذلك الكسب وتعدده في الماضي .

وفي ذكر فعل { كانوا } دون أن يقال : ما يكسبون ، إشارة إلى أن المراد : ما كسبوه في أعمارهم من الإشراك قبل مجيء الإسلام فإنهم وإن لم يَكونوا مناط تكليف أيامئذ .

فهم مخالفون لما جاءت به الشرائع السالفة وتواتر وشاع في الأمم من الدعوة إلى توحيد الله بالإلهية على قول الأشعري وأهل السنة في توجيه مؤاخذة أهل الفترة بذنب الإشراك بالله حسبما اقتضته الأدلة من الكتاب والسنة أو مخالفون لمقتضى دلالة العقل الواضحة على قول الماتريدي والمعتزلة ولحق بذلك ما اكتسبوه من وقت مجيء الإسلام إلى أن نزلت هذه السورة فهي مدة ليست بالقصيرة .