قوله تعالى : { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم } ، والإعجاب هو السرور بما يتعجب منه ، يقول : لا تستحسن ما أنعمنا عليهم من الأموال والأولاد لأن العبد إذا كان من الله في استدراج كثر الله ماله وولده ، { إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا } ، فإن قيل : أي تعذيب في المال والولد وهم يتنعمون بها في الحياة الدنيا ؟ . قيل : قال مجاهد و قتادة : في الآية تقديم وتأخير ، تقديره : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة . وقيل : التعذيب بالمصائب الواقعة في المال والولد . وقال الحسن : يعذبهم بها في الدنيا بأخذ الزكاة منها والنفقة في سبيل الله ، وقيل : يعذبهم بالتعب في جمعه ، والوجل في حفظه ، والكره في إنفاقه ، والحسرة على تخليفه عند من لا يحمده ، ثم يقدم على ملك لا يعذره . { وتزهق أنفسهم } ، أي : تخرج ، { وهم كافرون } ، أي : يموتون على الكفر .
يقول تعالى لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه : { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ } كما قال تعالى : { وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [ طه : 131 ]
وقال : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55 ، 56 ]
وقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } قال الحسن البصري : بزكاتها ، والنفقة منها في سبيل الله .
وقال قتادة : هذا من المقدم والمؤخر ، تقديره : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ، [ في الحياة الدنيا ]{[13551]} إنما يريد الله ليعذبهم بها [ في الآخرة ]{[13552]} واختار ابن جرير قول الحسن ، وهو القول القَوي الحسن .
وقوله : { وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } أي : ويريد أن يميتهم حين يميتهم على الكفر ، ليكون ذلك أنكى لهم وأشد لعذابهم ، عياذا بالله من ذلك ، وهذا يكون من باب الاستدراج لهم فيما هم فيه .
{ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم } فإن ذلك استدراج ووبال لهم كما قال . { إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا } بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب وما يرون فيها من الشدائد والمصائب . { وتزهق أنفسهم وهم كافرون } فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع عن النظر في العاقبة فيكون ذلك استدراجا لهم . وأصل الزهوق الخروج بصعوبة .
تفريع على مذمّة حالهم في أموالهم ، وأن وفرة أموالهم لا توجب لهم طُمَأنِينَة بال ، بإعلام المسلمين أنّ ما يرون بعض هؤلاء المنافقين فيه من متاع الحياة الدنيا لا ينبغي أن يكون محلّ إعجاب المؤمنين ، وأن يحسبوا المنافقين قد نالوا شيئاً من الحظّ العاجل ببيان أنّ ذلك سبب في عذابهم في الدنيا .
فالخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد تعليم الأمّة .
ومعنى هذه الآية : أنّ الله كشف سرّاً من أسرار نفوس المنافقين بأنّه خلق في نفوسهم شحّاً وحرصاً على المال وفتنة بتوفيره والإشفاق من ضياعه ، فجعلهم بسبب ذلك في عناء وعذاب من جرّاء أموالهم ، فهم في كَبَد من جمعها . وفي خوف عليها من النقصان ، وفي ألم من إنفاق ما يلجئهم الحال إلى إنفاقه منها ، فقد أراد الله تعذيبهم في الدنيا بما الشأن أن يكون سبب نعيم وراحة ، وتمّ مراده . وهذا من أشدّ العقوبات الدنيوية وهذا شأن البخلاء وأهل الشحّ مطلقاً ، إلاّ أنّ المؤمنين منهم لهم مسلاة عن الرزايا بما يرجون من الثواب على الإنفاق أو على الصبر . ثم يجوز أن يكون هذا الخلق قد جبلهم الله عليه من وقت وجودهم فيكون ذلك من جملة بواعث كفرهم ونفاقهم ، إذ الخلق السيّء يدعو بعضه بعضاً ، فإنّ الكفر خُلق سيّء فلا عجب أن تنساق إليه نفس البخيل الشحيح ، والنفاق يبعث عليه الخلقُ السيّء من الجُبن والبخل ، ليتقّي صاحبه المخاطر ، وكذلك الشأن في أولادهم إذ كانوا في فتنة من الخوف على إيمان بعض أولادهم ، وعلى خلاف بينهم وبين بعض أولادهم الموفّقين إلى الإسلام : مثل حنظلة : ابن أبي عامر الملقّببِ غَسيلَ الملائكة ، وعبد الله بننِ عبدِ الله بننِ أُبي فكان ذلك من تعذيب أبويهما .
ولكون ذكر الأولاد كالتكملة هنا لزيادة بيان عدم انتفاعهم بكلّ ما هو مظنّة أن ينتفع به الناس ، عُطف الأولاد بإعادة حرف النفي بَعْد العاطف ، إيماء إلى أنّ ذكرهم كالتكملة والاستطراد .
واللام في { ليعذّبهم } للتعليل : تعلّقت بفعل الإرادة للدلالة على أنّ المراد حكمة وعلّة فتغني عن مفعول الإرادة ، وأصل فعل الإرادة أن يعدَّى بنفسه كقوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] ويعدّى غالباً باللام كما في هذه الآية وقوله تعالى : { يريد الله ليبين لكم } في سورة النساء ( 26 ) وقول كُثيّرِ :
أريدُ لأنْسَى حُبَّها فكأنما *** تَمَثَّلُ لِي ليلَى بكلّ مكان
وربما عَدَّوه باللام وكَي مبالغةً في التعليل كقول قيس بن عُبادة :
أردتُ لكيما يعلمَ الناس أنّها *** سراويلُ قيس والوفُود شهود
وهذه اللام كثير وقوعها بعد مادة الإرادة ومادة الأمر . وبعضُ القرّاء سمّاها ( لام أنْ ) بفتح الهمزة وتقدم عند قوله تعالى : { يريد الله ليبين لكم } في سورة النساء ( 26 ) .
فقوله : { في الحياة الدنيا } متعلّق ب { يعذبهم } ومحاولة التقديم والتأخير تعسّف وعطف { وتزهق } على { ليعذبهم } باعتبار كونه أراده الله لهم عندما رزقهم الأموال والأولاد فيعلم منه : أنّه أراد موتهم على الكفر ، فيستغرق التعذيبُ بأموالهم وأولادهم حياتَهم كلّها ، لأنّهم لو آمنوا في جزء من آخر حياتهم لحصل لهم في ذلك الزمن انتفاع ما بأموالهم ولو مع الشحّ .
وجملة : { وهم كافرون } في موضع الحال من الضمير المضاف إليه لأنّه إذا زهقت النفس في حال الكفر فقد مات كافراً .
والإعجاب استحسان مشوب باستغراب وسرور من المرئي قال تعالى : { ولو أعجبك كثرة الخبيث } [ المائدة : 100 ] أي استحسنت مرأى وفرة عدده .
و ( الزهوق ) الخروج بشدّة وضيق ، وقد شاع ذكره في خروج الروح من الجسد ، وسيأتي مثل هذه الآية في هذه السورة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلا تعجبك} يا محمد {أموالهم ولا أولادهم} يعني المنافقين، {إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} بما يلقون في جمعها من المشقة، وفيها من المصائب، {وتزهق أنفسهم} يعني ويريد أن تذهب أنفسهم على الكفر فيميتهم كفارا، فذلك قوله: {وهم كافرون}... ومصيرهم إلى النار...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: فلا تعجبك يا محمد أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وقال: معنى ذلك: التقديم وهو مؤخر..
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا، بما ألزمهم فيها من فرائضه... عن الحسن: إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِها فِي الحَياةِ الدّنْيا قال: بأخذ الزكاة والنفقة في سبيل الله تعالى...
وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا، التأويل الذي ذكرنا عن الحسن، لأن ذلك هو الظاهر من التنزيل، فصرف تأويله إلى ما دلّ عليه ظاهره أولى من صرفه إلى باطن لا دلالة على صحته، وإنما وجه من وجه ذلك إلى التقديم وهو مؤخر، لأنه لم يعرف لتعذيب الله المنافقين بأموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا وجها يوجهه إليه، وقال: كيف يعذّبهم بذلك في الدنيا، وهي لهم فيها سرور، وذهب عنه توجيهه إلى أنه من عظيم العذاب عليه إلزامه ما أوجب الله عليه فيها من حقوقه وفرائضه، إذ كان يلزمه ويؤخذ منه وهو غير طيب النفس، ولا راج من الله جزاء ولا من الآخذ منه حمدا ولا شكرا على ضجر منه وكره.
وأما قوله:"وَتَزْهَقَ أنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ" فإنه يعني: وتخرج أنفسهم، فيموتوا على كفرهم بالله وجحودهم نبوّة نبيّ الله محمد صلى الله عليه وسلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذا نهي للنبي (صلى الله عليه وآله) والمراد به المؤمنون، والمعنى: لا يروق ناظركم أيها المؤمنون ظاهر حسنها يعني أموال المنافقين والكفار وأولادهم تستحسنونه بالطبع البشري...
وقوله "إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا "وقيل في معنى ذلك وجوه:... الثاني -قال ابن زيد: معناه إنما يريد الله ليعذبهم بحفظها والمصائب فيها مع حرمان النفقة بها...
والخامس- أن يكون المعنى أن مفارقتها وتركها والخروج عنها بالموت صعب عليهم شديد، لأنهم يفارقون النعم ولا يدرون إلى ماذا يصيرون بعد الموت فيكون حينئذ عذابا عليهم. بمعنى أن مفارقتها غم وعذاب
... والزهق: الخروج بصعوبة. وأصله الهلاك، ومنه قوله "قل جاء الحق وزهق الباطل" وكل هالك زاهق... والاعجاب: السرور بما يعجب...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بَيَّنَ أن ما حسبوه نعمة واعْتَدُّوه من الله مِنَّةٌ فهو -في التحقيق- مِحْنَةٌ، وسببُ شقاءٍ وفُرْقة، وإنما دَسَّ التقديرُ لهم سُمومَ الصَّابِ، فيما استلذوه من الشرابِ؛ {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالِ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 56]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الإعجاب بالشيء: أن يسرّ به سرور راض به متعجب من حسنه. والمعنى: فلا تستحسن ولا تفتنن بما أوتوا من زينة الدنيا، كقوله تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه: 131] فإن الله تعالى إنما أعطاهم ما أعطاهم للعذاب، بأن عرضه للتغنم والسبي، وبلاهم فيه بالآفات والمصائب، وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير، وهم كارهون له على رغم أنوفهم، وأذاقهم أنواع الكلف والمجاشم في جمعه واكتسابه وفي تربية أولادهم. فإن قلت: إن صحّ تعليق التعذيب بإرادة الله تعالى، فما بال زهوق أنفسهم {وَهُمْ كافرون}؟ قلت: المراد الاستدراج بالنعم، كقوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} [آل عمران: 178] كأنه قيل: ويريد أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا وهم كافرون ملتهون بالتمتع عن النظر للعاقبة...
اعلم أنه تعالى لما قطع في الآية الأولى رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة، بين أن الأشياء التي يظنونها من باب المنافع في الدنيا، فإنه تعالى جعلها أسباب تعظيمهم في الدنيا، وأسباب اجتماع المحن والآفات عليهم، ومن تأمل في هذه الآيات عرف أنها مرتبة على أحسن الوجوه، فإنه تعالى لما بين قبائح أفعالهم وفضائح أعمالهم، بين ما لهم في الآخرة من العذاب الشديد ومالهم في الدنيا من وجوه المحنة والبلية، ثم بين بعد ذلك أن ما يفعلونه من أعمال البر لا ينتفعون به يوم القيامة البتة. ثم بين في هذه الآية أن ما يظنون أنه من منافع الدنيا فهو في الحقيقة سبب لعذابهم وبلائهم وتشديد المحنة عليهم، وعند هذا يظهر أن النفاق جالب لجميع الآفات في الدين والدنيا، ومبطل لجميع الخيرات في الدين والدنيا، وإذا وقف الإنسان على هذا الترتيب عرف أنه لا يمكن ترتيب الكلام على وجه أحسن من هذا. ومن الله التوفيق. وفيه مسائل:
المسألة الأولى: هذا الخطاب، وإن كان في الظاهر مختصا بالرسول عليه السلام، إلا أن المراد منه كل المؤمنين، أي لا ينبغي أن تعجبوا بأموال هؤلاء المنافقين والكافرين، ولا بأولادهم ولا بسائر نعم الله عليهم، ونظيره قوله تعالى: {ولا تمدن عينيك} الآية.
المسألة الثانية: الإعجاب: السرور بالشيء مع نوع الافتخار به، ومع اعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه، وهذه الحالة تدل على استغراق النفس في ذلك الشيء وانقطاعها عن الله، فإنه لا يبعد في حكم الله أن يزيل ذلك الشيء عن ذلك الإنسان ويجعله لغيره، والإنسان متى كان متذكرا لهذا المعنى زال إعجابه بالشيء، ولذلك قال عليه السلام: «ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه»... أما قوله: {إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا}... الأموال والأولاد يحتمل أن تكون سببا للعذاب في الدنيا، ويحتمل أن تكون سببا للعذاب في الآخرة؛ أما كونها سببا للعذاب في الدنيا فمن وجوه:
الأول: أن كل من كان حبه للشيء أشد وأقوى، كان حزنه وتألم قلبه على فواته أعظم وأصعب، وكان خوفه على فواته أشد وأصعب، فالذين حصلت لهم الأموال الكثيرة والأولاد إن كانت تلك الأشياء باقية عندهم كانوا في ألم الخوف الشديد من فواتها، وإن فاتت وهلكت كانوا في ألم الحزن الشديد بسبب فواتها، فثبت أنه بحصول موجبات السعادات الجسمانية لا ينفك عن تلك القلب إما بسبب خوف فواتها وإما بسبب الحزن من وقوع فواتها.
والثاني: أن هذه يحتاج في اكتسابها وتحصيلها إلى تعب شديد ومشقة عظيمة، ثم عند حصولها يحتاج إلى متاعب أشد وأشق وأصعب وأعظم في حفظها، فكان حفظ المال بعد حصوله أصعب من اكتسابه، فالمشغوف بالمال والولد أبدا يكون في تعب الحفظ والصون عن الهلاك، ثم إنه لا ينتفع إلا بالقليل من تلك الأموال، فالتعب كثير والنفع قليل.
والثالث: أن الإنسان إذا عظم حبه لهذه الأموال والأولاد، فإما أن تبقى عليه هذه الأموال والأولاد إلى آخر عمره، أولا تبقى، بل تهلك وتبطل. فإن كان الأول، فعند الموت يعظم حزنه وتشتد حسرته، لأن مفارقة المحبوب شديدة، وترك المحبوب أشد وأشق، وإن كان الثاني وهو أن هذه الأشياء تهلك وتبطل حال حياة الإنسان عظم أسفه عليها، واشتد تألم قلبه بسببها، فثبت أن حصول الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا.
الرابع: أن الدنيا حلوة، خضرة، والحواس مائلة إليها، فإذا كثرت وتوالت استغرقت فيها وانصرفت النفس بكليتها إليها، فيصير ذلك سببا لحرمانه عن ذكر الله، ثم إنه يحصل في قلبه نوع قسوة وقوة وقهر، وكلما كان المال والجاه أكثر. كانت تلك القسوة أقوى، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} فظهر أن كثرة الأموال والأولاد سبب قوي في زوال حب الله وحب الآخرة عن القلب وفي حصول حب الدنيا وشهواتها في القلب، فعند الموت كان الإنسان ينتقل من البستان إلى السجن ومن مجالسة الأقرباء والأحباء إلى موضع الكربة والغربة، فيعظم تألمه وتقوى حسرته، ثم عند الحشر حلالها حساب، وحرامها عقاب.
فثبت أن كثرة الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا والآخرة. فإن قيل: هذا المعنى حاصل للكل، فما الفائدة في تخصيص هؤلاء المنافقين بهذا العذاب؟ قلنا: المنافقون مخصوصون بزيادات في هذا الباب:
أحدها: أن الرجل إذا آمن بالله واليوم الآخر علم أنه خلق للآخرة لا للدنيا، فبهذا العلم يفتر حبه للدنيا، وأما المنافق لما اعتقد أنه لا سعادة إلا في هذه الخيرات العاجلة عظمت رغبته فيها، واشتد حبه لها، وكانت الآلام الحاصلة بسبب فواتها أكثر في حقه، وتقوى عند قرب الموت وظهور علاماته، فهذا النوع من العذاب حاصل لهم في الدنيا بسبب حب الأموال والأولاد.
وثانيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكلفهم إنفاق تلك الأموال في وجوه الخيرات، ويكلفهم إرسال أموالهم وأولادهم إلى الجهاد والغزو، وذلك يوجب تعريض أولادهم للقتل، والقوم كانوا يعتقدون أن محمدا ليس بصادق في كونه رسولا من عند الله وكانوا يعتقدون أن إنفاق تلك الأموال تضييع لها من غير فائدة، وأن تعريض أولادهم للقتل التزام لهذا المكروه الشديد من غير فائدة، ولا شك أن هذا أشق على القلب جدا، فهذه الزيادة من التعذيب، كانت حاصلة للمنافقين. وثالثها: أنهم كانوا يبغضون محمدا عليه الصلاة والسلام بقلوبهم، ثم كانوا يحتاجون إلى بذل أموالهم وأولادهم ونفوسهم في خدمته، ولا شك أن هذه الحالة شاقة شديدة...
ورابعها: أنهم كانوا خائفين من أن يفتضحوا ويظهر نفاقهم وكفرهم ظهورا تاما، فيصيرون أمثال سائر أهل الحرب من الكفار، وحينئذ يتعرض الرسول لهم بالقتل، وسبي الأولاد ونهب الأموال، وكلما نزلت آية خافوا من ظهور الفضيحة، وكلما دعاهم الرسول خافوا من أنه ربما وقف على وجه من وجوه مكرهم وخبثهم وكل ذلك مما يوجب تألم القلب ومزيد العذاب.
وخامسها: أن كثيرا من المنافقين كان لهم أولاد أتقياء، كحنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي، شهد بدرا وكان من الله بمكان، وهم خلق كثير مبرؤون عن النفاق وهم كانوا لا يرتضون طريقة آبائهم في النفاق، ويقدحون فيهم، ويعترضون عليهم، والابن إذا صار هكذا عظم تأذى الأب به واستيحاشه منه، فصار حصول تلك الأولاد سببا لعذابهم.
وسادسها: أن فقراء الصحابة وضعافهم كانوا يذهبون في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الغزوات، ثم يرجعون مع الاسم الشريف والثناء العظيم والفوز بالغنائم. وهؤلاء المنافقون مع الأموال الكثيرة والأولاد الأقوياء، كانوا يبقون في زوايا بيوتهم أشباه الزمنى والضعفاء من الناس، ثم إن الخلق ينظرون إليهم بعين المقت والازدراء والسمة بالنفاق، وكأن كثرة الأموال والأولاد صارت سببا لحصول هذه الأحوال، فثبت بهذه الوجوه أن كثرة أموالهم وأولادهم صارت سببا لمزيد العذاب في الدنيا في حقهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما انتفى عن أموالهم النفع الأخروي الذي هو النفع، تسبب عن ذلك الزهد فيها الموجب لعدم الالتفات إليها وعدم اعتقاد أن فيها بركة ودلالة على خير، فقال -مبيناً ما فيها من الفساد الذي يظن أنه صلاح: {فلا}- بفاء السبب، فالسياق أبلغ من سياق الآتية بعد النهي عن الصلاة عليهم {تعجبك أموالهم} أي وإن أنفقوها في سبيلي وجهزوا بها الغزاة. فإن ذلك عن غير إخلاص منهم ولا حسن نية ولا جميل طوية، وإنما هو لما أذلهم من عزة الإسلام وأخافهم من سطوة الانتقام فهو من جملة العذاب، وعطف عليها الأولاد لمشاركتها لها في الملاذ والقوة والاستعمال في الجهاد، فقال مؤكداً للنفي بإعادة النافي: {ولا أولادهم} فكأنه قيل: فماذا يراد بإعطائهم ذلك؟ ولو منعوها وأعطيها المخلصون لكان قوة للدين، فقال: {إنما يريد الله} أي يوقع الإرادة لهم بها الملك الذي له الإحاطة بجميع الحكمة كما أن له الإحاطة بتمام القدرة، وأبلغ في الحصر بإدخال اللام في قوله: {ليعذبهم} أي لأجل أن يعذبهم {بها في الحياة} أي وإن كان يتراءى أنها لذيذة، لأن ذلك من شأن الحياة فإنما هي لهم موت في الحقيقة {الدنيا} أي تارة بجمعها وتربيتها وتارة ببذلها كرهاً في سبيل الله أو في تزكيتها وتارة بغير ذلك {وتزهق} أي وإنما يريد بتمكينهم منا لأجل أن يخرج وقت الموت بغاية الصعوبة {أنفسهم} أي بسببها {وهم} أي والحال أنهم {كافرون} أي عريقون في الكفر، وهكذا كل من أراد استدراجه سبحانه فإنه في الغالب يكثر أموالهم وأولادهم لنحو هذا لأنهم إذ رأوا زيادتهم بها على بعض المخلصين ظنوا أن ذلك إنما هو لكرامتهم وحسن حالتهم فيستمرون عليها حتى يموتوا فهو سبحانه لم يرد بها منحتهم بل فتنتهم ومحنتهم، وأما الدين فإن القادر يقويه بغير ذلك فيكون أظهر لدليله وأوضح لسبيله؛ فالحاصل أنه ظهر لهم أنهم أكرموا بها وخفي عنهم أنها سبب لعذابهم في الحياة باتكالهم عليها، وفي الممات بصعوبته عليهم المشار إليه بالزهوق، وفي الآخرة بسبب موتهم على حال الكفر باستدراجهم بها، وأما المؤمن فلا يموت حتى يرى من الثواب ما يسليه عن كل شيء فيشتاق إلى لقاء الله وتخرج نفسه وهو في غاية المحبة لخروجها لأن البدن عائق له عما يرى...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} الإعجاب بالشيء أن تسر به سرور راض به، فتعجب من حسنه كما قال الزمخشري، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل من سمع القول أو بلغه، والكلام مرتب على ما قبله، كأنه يقول: إذا كان هذا شأنهم في مظنة ما ينتفعون به من أموالهم، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، فلا تعجبك أيها الرسول أو أيها السامع أموالهم ولا أولادهم التي هي في نفسها من أكبر النعم وأجلها، ولا تظن أنهم وقد حرموا من ثوابها في الآخرة قد صفا لهم نعيمها في الدنيا، وعلل النهي بقوله: {إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} بما يعرض لهم فيها من المنغصات والحسرات، أما الأموال فإنهم يتعبون في جمعها، ويحرصون على حفظها، ويشق عليهم ما ينفقونه منها من زكاة وإعانة على قتال وإنفاق على قريب من المؤمنين، وأشق منه اعتقادهم أنهم يتركونها بعدهم لمصالح المسلمين، لأن ورثتهم منهم في الغالب حتى زعيمهم الأكبر عبد الله بن أبي [لعنه الله] -كما سيأتي في الآيات التي نزلت في خبر موته على كفره وأعيدت هذه الآية فيها. وأما الأولاد فلأنهم يرونهم قد نشأوا في الإسلام واطمأنت به قلوبهم، وأنهم يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وكل هذه حسرات في قلوبهم. ولقد كان ثعلبة -الذي عاهد الله لئن آتاه من فضله ليصدقن وليكونن من الصالحين، ثم نقض عهده وأخلف الله ما وعده بعد أن أغناه -أشدهم حسرة بامتناع الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه عن قبول زكاته. {وتزهق أنفسهم وهم كافرون} فيعذبون بها في الآخرة أشد مما عذبوا بها في الدنيا بموتهم على كفرهم المحبط لعملهم، زهوق الأنفس خروجها من الأجساد. وقال بعض المفسرين: هو الخروج بصعوبة، وفي التنزيل {وقل جاء الحق وزهق الباطل} [الإسراء: 81] أي هلك واضمحل، وجعله في الأساس مجازا، والظاهر أنه من زهق السهم إذا سقط دون الهدف، وورد زهقت الناقة بمعنى أسرعت، فالتعبير بالزهوق هنا إما من الأول أي الهلاك وهو الأظهر، وإما من الإسراع للإشارة إلى أنه لم يبق من أعمارهم إلا القليل حقيقة، أو من قبيل قوله تعالى فيهم: {قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذاً لا تمتعون إلا قليلاً} [الأحزاب: 16]...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد كان هؤلاء المنفقون وهم كارهون ذوي مال وذوي أولاد، وذوي جاه في قومهم وشرف. ولكن هذا كله ليس بشيء عند اللّه. وكذلك يجب ألا يكون شيئاً عند الرسول والمؤمنين. فما هي بنعمة يسبغها اللّه عليهم ليهنأوا بها، إنما هي الفتنة يسوقها اللّه إليهم ويعذبهم بها: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم، إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الحياة الدنيا، وتزهق أنفسهم وهم كافرون). إن الأموال والأولاد قد تكون نعمة يسبغها اللّه على عبد من عباده، حين يوفقه إلى الشكر على النعمة، والإصلاح بها في الأرض، والتوجه بها إلى اللّه، فإذا هو مطمئن الضمير، ساكن النفس، واثق من المصير. كلما أنفق احتسب وشعر أنه قدم لنفسه ذخراً، وكلما أصيب في ماله أو بنيه احتسب، فإذا السكينة النفسية تغمره. والأمل في اللّه يسري عنه.. وقد تكون نقمة يصيب اللّه بها عبداً من عباده، لأنه يعلم من أمره الفساد والدخل، فإذا القلق على الأموال والأولاد يحول حياته جحيماً، وإذا الحرص عليها يؤرقه ويتلف أعصابه، وإذا هو ينفق المال حين ينفقه فيما يتلفه ويعود عليه بالأذى، وإذا هو يشقى بأبنائه إذا مرضوا ويشقى بهم إذا صحوا. وكم من الناس يعذبون بأبنائهم لسبب من الأسباب! وهؤلاء الذين كانوا على عهد الرسول -[صلى الله عليه وسلم]- وأمثالهم في كل زمان، يملكون الأموال ويرزقون الأولاد، يعجب الناس ظاهرها، وهي لهم عذاب على نحو من الأنحاء. عذاب في الحياة الدنيا، وهم -بما علم اللّه من دخيلتهم- صائرون إلى الهاوية. هاوية الموت على الكفر والعياذ باللّه من هذا المصير. والتعبير (وتزهق أنفسهم) يلقي ظل الفرار لهذه النفوس أو الهلاك. ظلاً مزعجاً لا هدوء فيه ولا اطمئنان، فيتسق هذا الظل مع ظل العذاب في الحياة الدنيا بالأموال والأولاد. فهو القلق والكرب في الدنيا والآخرة. وما يحسد أحد على هذه المظاهر التي تحمل في طياتها البلاء!...
والله يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي طي هذا الخطاب خطاب لجميع المسلمين وهنا يقول الحق سبحانه: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون}. وإياكم أن تروا واحدا من هؤلاء ممن رزقهم الله المال والولد ثم تقولون: كيف يكون عذابهم في الدنيا وهم يملكون المال والولد؟ ومثل هذا التعجب يعني استحسان المال والولد، والظن أن فيهما الخير كله، لكنك إن نظرت بعمق إلى المال والولد وكل حطام الدنيا فستجده لا يستحق الإعجاب، وإياك أن تغتر بشيء يمكن أن يترك، ويمكن أن يموت سببا في عذابك، فالمال والولد قد يجعلان الإنسان متلفتا إلى النعمة ويلهيانه عن المنعم. وإن لم يلتفت الإنسان إلى المنعم لا يذكره. وإن لم يذكر الله أهمل منهجه. والمال والولد في الحياة الدنيا قد يكونان سببين في أن يخاف الإنسان ترك الدنيا. فإن لم يكن لك إيمانا بما عند الله في الآخرة، فقد تخاف أن يترك المال والولد. والذي لا يؤمن باليوم الآخر؛ فالدنيا هي كل زمنه؛ وإن فاتها كان ذلك مصيبة له، وإن فاتته كان ذلك مصيبة عليه. وإن آمن الإنسان بالله واليوم الآخر لقال: لئن فاتتني الدنيا فلي عند الله خير منها.
ويريد الحق سبحانه أن يمنع عن المؤمنين به فتنة النعمة التي تلهي عن المنعم، فيقول سبحانه: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} والآية الكريمة تدلنا على أن للمال وحده إعجابا، وللأولاد وحدهم إعجابا، فمن عنده مال معجب بما عنده. ومن ليس عنده مال وعنده أولاد معجب بهم أيضا. فإذا اجتمع الاثنان معا يكون الإعجاب أكبر وأشمل. والحق سبحانه وتعالى يريدنا أن نفهم أن اجتماع المال والولد يجب أن يثير الإعجاب في نفوسنا، بل إن سياق الآية يحذرنا من أن نعجب بمن عنده المال وحده، أو بمن عنده الأولاد وحدهم، ولذلك كرر الحق سبحانه وتعالى كلمة: {لا} فقال: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم}. وأفهمنا الحق سبحانه وتعالى أنه إذا أمد الكافر أو المنافق بالمال والولد؛ فذلك ليس رفعة من شأنه، وإنما ليعذبه بهما في الدنيا والآخرة. فقال: {إنما يريد الله ليعذبهم بها}، واللام هنا في "ليعذبهم "هي لام تدخل على الفعل واسمها "لام العاقبة". وهي تعني أننا ربما نقوم بالفعل لهدف معين، ولكن قد تكون عاقبته شيئا آخر تماما غير ذلك الذي قصدناه، بل ربما تكون عكس الذي قصدناه. وعندما نقرأ القرآن نجد قول الحق سبحانه وتعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدو وحزنا... (8)} (القصص). هل التقط آل فرعون موسى عليه السلام ليكون لهم عدوا؟ أم ليكون قرة عين لهم؟ هم قد التقطوه ليكون قرة عين لهم، ولكن الذي حدث كان عكس ما قصدوه ساعة قيامهم بفعل الالتقاط، فبدلا من أن يصبح موسى قرة عين، أصبح عدوا لفرعون، بل كان سببا في زوال ملكه، إذن هذه هي لام العاقبة. والله سبحانه وتعالى أعطى لبعض الكفار أموالا وأولادا، وهذا في ظاهره رفعة في الدنيا، ولكنهم بدلا من أن يستخدموا هذه النعمة في التقرب إلى الله ألهتهم عن الإيمان بالله، ووصل بهم الأمر إلى أن يدخل الحق العذاب. ولم يرد الحق العذاب لهم، ولكنهم بحركتهم وفتنتهم بالمال والولد استحقوا أن يدخلوا في العذاب. والعمل غير الشرعي في تنمية المال أو إرضاء الأولاد هو الذي أوصلهم إلى العذاب. {إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} وأول ألوان العذاب: أن تلهيهم تلك النعم عن المنعم. وتبعدهم عن منهج الله فيصيرون في عداء مع المؤمنين بمنهج الله، ويخافون إعلان هذا العداء؛ لذلك حينما كان يرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب واحد من المنافقين أو اليهود كانوا يرتعدون ويتساءلون: هل اكتشف الرسول أمرنا أم كشف الله له بعض خبايانا؟ وكانوا في خوف أن يفتضح أمرهم، فيعاملهم المشركين ويرشدهم.
وثانيا: كانوا يخافون من أن يدخل الرسول عليه الصلاة والسلام في حرب؛ لأنهم ما داموا قد أعلنوا الإيمان فهم مطالبون ببذل المال، وأن يذهب أولادهم الذين بلغوا سن القتال مع جيش المسلمين، وكانوا يقولون بينهم وبين أنفسهم: ما لنا نبذل المال ونضحي بالأولاد في سبيل ما لا نؤمن به. وهم بمشاعرهم تلك يختلفون عن مشاعر المؤمنين الذين يلبون نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم طمعا في الجنة أو النصر. وهذا لون من ألوان العذاب.
وهناك لون آخر من العذاب: عندما يخرج هؤلاء المنافقون إلى إحدى الغزوات، فهم يخافون على أنفسهم من القتل أو الأذى بالأسر أو سبي النساء، فيكونون في عذاب نفسي طوال الرحلة إلى الغزوة وفي أثناء الحرب.
ولون ثالث كمن ألوان العذاب: أن عابد يجمع المال من حرام ومن حلال، لا يهمه من أين جاء المال؟ ولكن يهمه أن يأتي، والذي يكسب حلالا يكون واضح الحركة في الحياة، والذي يكسب حراما هو لص يخاف أن ينكشف أمام الناس، ويعيش في عذاب أليم دائم من أن يأتي يوم يكشف الله ستره فيعرف الناس أنه ارتشى، أو أنه اختلس، أو أنه زور وزيف. أو أنه فعل شيئا يحقره في أعين الناس أو يعرضه للعقوبة؛ كأن يكون قد تاجر في المخدرات أو في الأعراض. أو في غير ذلك، وخوفه من انكشاف أمره يجعله يعيش في عذاب دائم وصراع مستمر. وإذا أردنا أن نعرف الفرق بين الحلال والحرام نضرب هذا المثل: أنت إن أعجبك شيء في بيت جارك، طلبته منه أعطاك إياه، فأنت لا تخشى أن يعرف الناس ما حدث. ولكن إذا أعجبك شيء في بيت جارك وأردت أن تسرقه، فأنت لا تأتي في النهار ولا أمام الناس، بل تأتي ليلا وتحرص على ألا يراك أحد. ولا تدخل من باب الشقة، بل تظل تدور وتخطط لتجد منفذا تدخل منه دون أن يراك أحد. وتضع خطة للسرقة. وتدخل المنزل على أطراف أصابعك وأنت ترتعد. فإذا شعرت وأنت تنفذ الخطة بصوت أقدام تنزعج وتجري لتختبئ وتأخذ الشيء وتكون حريصا على إخفائه وإن رآه أحد عندك انزعجت، وكل هذا عذاب يمر به كل من يجمع المال الحرام، إذن فجمع المال الحرام عذاب. وكل من يربي أولاده من مال حرام لا يبارك الله له فيهم، فإما أن ينشأ الواحد منهم عذابا لأبيه في تربيته فيرسب في الامتحانات. ويتلف المال في الإنفاق بلا وعي. فكلما أعطيته أكثر احتاج إلى المزيد من المال أكثر. ومثل هذا الابن لا يطيع أباه، ويكون العذاب الأكبر حينما ينشأ أحد أبناء هذا الإنسان ويكون الابن مؤمنا إيمانا صادقا بالله، فيرفض أن يأكل أو يلبس من مال أبيه، أو أن يناقشه من أين جاء بهذا المال ويسمع منه ما يكره، ويتمرد دائما عليه. وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبو عامر عدوا لله ورسوله. وكان ابنه حنظلة مؤمنا، وكلما رأى أبو عامر ابنه كان قلبه يغلي بالغيظ، وعندما نودي للقتال، وسمع حنظلة نداء الجهاد بعد أن فزع من الاستمتاع مع زوجته فلم يصبر إلى أن يغتسل من الجنابة، بل سارع إلى الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشهد في المعركة. ولكن كيف عرف الصحابة قصة حنظلة، مع أن هذه المسألة تكون سرا بين الرجل وزوجته لا يعرفه أحد؟ لقد عرف المؤمنون بخبر حنظلة حين رأى رسول الله صلى الله عله وسلم بإشراقات الله أن الملائكة تنزل من السماء وتغسل حنظلة. ولما كان الشهيد لا يغسل، فقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا ليس غسلا من الشهادة، وإنما هو غسل حتى لا يقبل الشهيد على الله وهو جنب، رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ما حدث لحنظلة، وعندما عاد إلى المدينة بعث إلى زوجة حنظلة وسألها: ماذا حدث ساعة خروج حنظلة إلى المعركة؟ فقالت: إنه عندما سمع نداء القتال، خرج بدون غسل. وتأمل كيف نزلت الملائكة لتغسل شهيدا هو ابن عدو لله ورسوله. وكيف يكون هذا غيظا في قلب الأب.
وقصة أخرى: سيدنا عبد الله بن أبيّ؛ والده عبد الله بن أبيّ كان زعيم المنافقين في المدينة، وهو الذي انسحب يوم أحد ومعه ثلث المقاتلين من المعركة. ويسمع عبد الله أن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، يطلبون منه الإذن بقتل والده ابن أبيّ، وانظروا إلى الإيمان. فها هو الابن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول له: يا رسول الله إن كنت آمرا بقتل أبي فأمرني أنا بقتله؛ حتى لا ألقى قاتله من المسلمين وفي قلبي غل عليه. وعندما يسمع الأب أن ابنه يطلب أن يكون هو قاتله، أليس عذابا هذا في قلبه؟ وهكذا نرى أن الأموال والأولاد الذين كان من المفروض أن يكونوا نعمة يصبحون نقمة، أليس هذا عذابا في الدنيا؟ ولكن غير المؤمنين لا يلتفتون إلى واهب النعمة، ولا إلى الجزاء الذي ينتظرهم في الآخرة، ولا يتنبهون إلى حكمة الخلق التي تؤكد أن الإنسان خليفة الله في الأرض، وأن الله قد أعد الأرض بكل ما فيها من إمكانات ومن خيرات لتكون في خدمة هذا الخليفة، أي: أنه أقبل على عالم كامل من كل شيء؛ معدا له إعدادا فوق قدراته وطاقاته. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في حديث قدسي:"خلقت الأشياء من أجلك، وخلقتك من أجلي، فلا تشغل بما هو لك عما أنت له". أي لا تشتغل بالنعمة عن المنعم، تماما كما يدخل الإنسان إلى وليمة كبيرة، فيجد المائدة معدة بكل ألوان الطعام، وصاحب المائدة واقف فلا يحييه ولا يسلم عليه ويذهب مباشرة إلى الطعام، فيحس الناس أن هذا الإنسان جاحد بكرم الضيافة. بينما نجد رجلا آخر يدخل فيسلم على صاحب الوليمة ويشكره على كرمه ويشيد به، الأول: انشغل بالنعمة،
والثاني: لم ينسه انشغاله بالنعمة أن يشكر من أعدها له. ومثال آخر: إن الصحة هي من أثمن النعم. أما المرض فإنه أقسى ما يمكن أن يصاب به الإنسان؛ لأن الصحة هي التي تجعل الإنسان يتمتع بنعم الحياة، أما المرض فيحرمه من هذه النعمة. ولذلك فعندما يمرض الإنسان يعوضه الله بأنه بدلا من أن يكون في معية النعمة، يكون في معية المنعم وهو الله سبحانه. ولذلك يقول في حديث قدسي: "عبدي فلان مرض فلم تعدني. فيقول له: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول له: أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده. قولوا لي بالله: أيضيق أي مريض عندما يعرف الصحة كانت نعمة من الله وفرقته، ولكن المرض جعله مع المنعم، وهو الله سبحانه وتعالى؟ لا، بل إن ذلك يخفف عند وطأة المرض، ويجعله أن الأنس بالله يخفف عنه الآلام. ولكنك للأسف تجد الإنسان غير منطقي مع نفسه، فالعالم خلق من أجل الإنسان. والإنسان خلق ليعبد الله. ولكنك تجده لا يلتفت لما خلق من أجله، بل يلتفت للأشياء التي خلقت له. وقد كان من المنطقي أن ينشغل بما خلق من أجله. وإذا أخذنا مثلا منطق الإنسان مع الزمن، نجد أن الزمن إما أن يكون حاضرا أو ماضيا أو مستقبلا. فإذا أردنا أن نذهب إلى ما لا نهاية نقول: إن الزمن حاضر وأزلي وأبدي. والأزلي: هو القديم بلا بداية. والأبد: هو المستقبل بلا نهاية والحاضر: هو ما نعيش فيه. والوجود الذي تراه أمامك خلقه الحق سبحانه واجب الوجود وبكلمة "كن "جاء كل" ممكن الوجود"؛ لأن كل وجود يحتاج إلى موجد هو وجود ممكن، وسيأتي له عدم. أما الوجود غير المحتاج إلى موجد فهو وجود لا ينتهي أي: أن واجب الوجود هو وجود الله وحده سبحانه وتعالى. ولذلك فهو وجود أزلي قديم بلا نهاية، وأبد باق بلا نهاية. وبذلك فهو يخرج عن الزمن...