قوله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } . يؤلون أي يحلفون ، والألية : اليمين والمراد من الآية : اليمين على ترك وطء المرأة ، قال قتادة : كان الإيلاء طلاقاً لأهل الجاهلية ، وقال سعيد بن المسيب : كان ذلك من ضرار أهل الجاهلية ، كان الرجل لا يحب امرأته ، ولا يريد أن يتزوج بها غيره ، فيحلف أن لا يقربها أبداً ، فيتركها لا أيماً ، ولا ذات بعل ، وكانوا عليه في ابتداء الإسلام ، فضرب الله له أجلاً في الإسلام ، واختلف أهل العلم فيه : فذهب أكثرهم إلى أنه إن حلف أن لا يقرب زوجته أبداً ، أو سمى مدة أكثر من أربعة أشهر ، يكون مولياً ، فلا يتعرض له قبل مضي أربعة أشهر ، وبعد مضيها يوقف ويؤمر بالفيء أو بالطلاق بعد مطالبة المرأة ، والفيء هو الرجوع عما قاله بالوطء ، إن قدر عليه ، وإن لم يقدر فبالقول ، فإن لم يف ولم يطلق طلق عليه السلطان واحدة ، وذهب إلى الوقوف بعد مضي المدة عمر وعثمان وعلي وأبو الدرداء وابن عمر ، قال سليمان بن يسار : أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يقولون : بوقف المولي . وإليه ذهب سعيد بن جبير وسليمان بن يسار ومجاهد ، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وقال بعض أهل العلم : إذا مضت أربعة أشهر تقع عليه طلقة بائنة ، وهو قول ابن عباس وابن مسعود وبه قال سفيان الثوري وأصحاب الرأي . وقال سعيد بن المسيب و الزهري : تقع طلقة رجعية ، ولو حلف أن لا يطأها أقل من أربعة أشهر لا يكون مولياً ، بل هو حالف ، فإذا وطئها قبل مضي تلك المدة تجب عليه كفارة اليمين ، ولو حلف أن لا يطأها أربعة أشهر لا يكون مولياً عند من يقول بالوقف بعد مضي المدة ، لأن بقاء المدة شرط للوقف وثبوت المطالبة بالفيء أو الطلاق ، وقد مضت المدة . وعند من لا يقول بالوقف يكون مولياً ، ويقع الطلاق بمضي المدة . ومدة الإيلاء : أربعة أشهر في حق الحر والعبد جميعاً عن الشافعي رحمه الله ، لأنها ضربت لمعنى يرجع إلى الطبع ، وهو قلة صبر المرأة عن الزوج ، فيستوي فيه الحر والعبد كمدة العنة . وعند مالك رحمه الله و أبي حنيفة رحمه الله تنتصف مدة العنة بالرق ، غير أن عند أبي حنيفة تتصف برق المرأة ، وعند مالك برق الزوج ، كما قالا في الطلاق . قوله تعالى : ( تربص أربعة أشهر ) أي انتظار أربعة أشهر ، والتربص : التثبت والتوقف .
قوله تعالى : { فإن فاءوا } . رجعوا عن اليمين بالوطء .
قوله تعالى : { فإن الله غفور رحيم } . وإذا وطئ في الفرج خرج عن الإيلاء ، وتجب عليه كفارة اليمين عند أكثر أهل العلم ، وقال الحسن وإبراهيم النخعي وقتادة : لا كفارة عليه لأن الله تعالى وعد بالمغفرة فقال : ( فإن الله غفور رحيم ) وذلك عند الأكثرين في إسقاط العقوبة لا في الكفارة ، ولو قال لزوجته : إن قربتك فعبدي حر ، أو ضربتك فأنت طالق ، أو لله علي عتق عبد ، أو صوم ، أو صلاة ، فهو مول ، لأن المولي من يلزمه أمر بالوطء ، ويوقف بعد مضي المدة فإن فاء يقع الطلاق أو العتق المعلق به ، وإن التزم في الذمة تلزمه كفارة اليمين في قول ، وفي قول يلزمه ما التزم في ذمته من الإعتاق أو الصلاة والصوم .
الإيلاء : الحلف ، فإذا حلف الرجل ألا يجامع زوجته مدة ، فلا يخلو : إما أن يكون أقل من أربعة أشهر ، أو أكثر منها ، فإن كانت أقل ، فله أن ينتظر انقضاء المدة ثم يجامع امرأته ، وعليها أن تصبر ، وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدة ، وهذا كما ثبت في الصحيحين عن عائشة : أن رسول الله آلى من نسائه شهرًا ، فنزل لتسع وعشرين ، وقال : " الشهر تسع وعشرون " ولهما عن عمر بن الخطاب نحوه . فأما إن زادت المدة على أربعة أشهر ، فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر : إما أن يفيء - أي : يجامع - وإما أن يطلق ، فيجبره الحاكم على هذا أو هذا لئلا يضر بها . ولهذا قال تعالى : { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ } أي : يحلفون على ترك الجماع من نسائهم ، فيه دلالة على أن الإيلاء يختص بالزوجات دون الإماء كما هو مذهب الجمهور . { تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } أي : ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف ، ثم يوقف ويطالب بالفيئة أو الطلاق . ولهذا قال : { فَإِنْ فَاءُوا } أي : رجعوا إلى ما كانوا عليه ، وهو كناية عن الجماع ، قاله ابن عباس ، ومسروق والشعبي ، وسعيد بن جبير ، وغير واحد ، ومنهم ابن جرير رحمه الله { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين .
وقوله : { فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فيه دلالة لأحد قولي العلماء - وهو القديم عن الشافعي : أن المولي إذا فاء بعد الأربعة الأشهر أنه لا كفارة عليه . ويعتضد بما تقدم في الآية التي قبلها ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فتركها كفارتها " كما رواه أحمد وأبو داود والذي عليه الجمهور وهو الجديد من مذهب الشافعي أن عليه الكفارة لعموم وجوب التكفير على كل حالف ، كما تقدم أيضا في الأحاديث الصحاح . والله أعلم .
وقد ذكر الفقهاء وغيرهم - في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهر - الأثر الذي رواه الإمام مالك بن أنس ، رحمه الله ، في الموطأ ، عن عمرو بن دينار قال : خرج عمر بن الخطاب من الليل فسمع امرأة تقول :
تطاوَلَ هذا الليلُ واسودّ جانِبُهْ *** وأرقني ألا خليلَ ألاعِبُهْ
فوالله لولا الله أني أراقبهْ *** لحرِّكَ من هذا السرير جوانبه
فسأل عمر ابنته حفصة ، رضي الله عنها : كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها ؟ فقالت : ستة أشهر أو أربعة أشهر . فقال عمر : لا أحبس أحدًا من الجيوش أكثر من ذلك .
وقال : محمد بن إسحاق ، عن السائب بن جبير ، مولى ابن عباس - وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - قال : ما زلت أسمع حديث عمر أنه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة ، وكان يفعل ذلك كثيرا ؛ إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقة بابها [ وهي ] تقول :
تطاول هذا الليل وازورّ جانبه *** وأرقني ألا ضجيعَ ألاعِبُهْ
ألاعبه طورًا وطورًا كأنما *** بدا قمرًا في ظلمة الليل حاجبه
يسرّ به من كان يلهو بقربه *** لطيف الحشا لا يحتويه أقاربه
فوالله لولا الله لا شيء غيره *** لنقض من هذا السرير جوانبه
ولكنني أخشى رقيبًا موكلا *** بأنفسنا لا يَفْتُر الدهرَ كاتبه
ثم ذكر بقية ذلك كما تقدم ، أو نحوه . وقد روى هذا من طرق ، وهو من المشهورات .
{ للذين يؤلون من نسائهم } أي يحلفون على أن لا يجامعوهن . والإيلاء : الحلف ، وتعديته بعلى ولكن لما ضمن هذا القسم معنى البعد عدي بمن . { تربص أربعة أشهر } مبتدأ وما قبله خبره ، أو فاعل الظرف على خلاف سبق ، والتربص الانتظار والتوقف أضيف إلى الظرف على الاتساع ، أي للمولى حق التلبث في هذه المدة فلا يطالب بفيء ، ولا طلاق ، ولذلك قال الشافعي : لا إيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر ويؤيده { فإن فاؤوا } رجعوا في اليمين بالحنث ، { فإن الله غفور رحيم } للمولى إثم حنثه إذا كفر ، أو ما توخى بالإيلاء من ضرار المرأة ونحوه ، بالفيئة التي هي كالتوبة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.