الآية 226 وقوله تعالى : ( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم ) [ وقوله : ( وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ) [ البقرة : 227 ] وقوله : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ){[2589]} [ البقرة : 228 ] : قال الشيخ ، رحمه الله : ( الإيلاء معلوم في اللغة أنه اليمين ) وكذلك كان ابن عباس رضي الله عنه يقرأ : للذين يقسمون{[2590]} . وما هو لليمين من الحكم لا يجب لغيرها نحو الكفارة التي [ تجب للحنث فيها ، ثم ]{[2591]} يجب له على كل حال على أي وصف كانت اليمين ، فكذلك حكم الإيلاء ، وهو قول عبد الله [ بن مسعود وعبد الله ]{[2592]} بن عباس رضوان الله عليهم وروي عن علي رضي الله عنه التفريق بين الغضب والرضا .
ثم أوجب التربص للمولى ؛ فمن كانت يمينه بدون أربعة أشهر فهو بعد المدة ليس بمؤل ، فلم يلزمه الحكم الذي جعل الله [ للإيلاء ]{[2593]} . ألا ترى أنه في المدة ذكر الفيء ؟ وهو لو وجد منه لم يجب عليه ما في الفيء من الكفارة ، فكذا بمضي المدة لا يلزمه الطلاق ، وبه يقول علي وابن عباس وابن مسعود رضوان الله عليهم : [ فيقول ابن مسعود ]{[2594]} : { يلزمه حكم يمين [ يوم ]{[2595]} ، وابن عباس [ رضي الله عنه ]{[2596]} يقول : { الإيلاء يمين الأبد ، وذلك عندنا على إرادة الإتمام ، ولو جعله شرطا لكان الحكم يلزمه بمضي أربعة الأشهر ، فلا وجوه للزيادة عليه ، وهو قول عبد الله [ بن مسعود ]{[2597]} يلزمه بدونه .
ثم اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في الوقف بعد أربعة الأشهر على اتفاقهم على [ حق ]{[2598]} لزوم الطلاق{[2599]} أو حقه بمضي المدة . ثم لا يجوز أن يحلف بحق الطلاق ، فيلزم ، ويجوز أن يحلف بالطلاق ، فيلزم ؛ لذلك كان الطلاق أحق مع ما ذلك زيادة في المدة للتربص ، وجميع المدة{[2600]} التي جعلت بين الزوجين لم تحتمل الزيادة عليها لما جعلت له المدة ؛ فمثله مدة الطلاق . وهذا على أن الله تعالى حذر من نقض اليمين بقوله : ( ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ) [ النحل : 91 ] وأطلق في هذا أربعة أشهر بما روي في قراءة أبي [ بن كعب ] : ( فإن فاءوا ) [ فيهن ]{[2601]} [ البقرة : 226 ] ؛ [ يعني في أربعة الأشهر ]{[2602]} ، ففي غير ذلك حكم النهي له أخذ ، والله أعلم .
[ وقوله : ( وإن عزموا الطلاق ) كقوله : ( فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ) [ البقرة : 231 ] وليس ذلك على إحداثه بعد مضي المدة ، كذلك الأول ، والله أعلم .
[ وقوله : ( سميع ) بالإيلاء ( عليم ) بتحقيق حكمه أنه لم يفىء إليهما مع ما كان كذلك بذاته ؛ كأنه قال على{[2603]} علم بما يكون من خلقه وبما به صلاحهم وما إليهم مرجعهم ؛ خلقهم هو ( عليم ) بجميع ما به تناجوا ) ، وأسروا ، وجهروا ، والله الموفق ]{[2604]} .
[ ثم الدليل على أن المراد من قوله : ( ثلاثة قروء ) ؛ وإن احتمل الطهر ، يرجع إلى الحيض [ في وجوه :
أحدها : ]{[2605]} أن ( ثلاثة ) اسم لتمام العدد ، فيصير كأنه قال : ( ثلاثة ) أطهار ، لو أراد به الطهر ، أو ثلاث حيض ، لو أراد به الحيض . ثم هم على اختلافهم اتفقوا أنه بالحيض ثلاثة ، وبالطهر طهران وبعض الأول . ثبت أن الحيض أولى مع ما كان فيه الاحتياط ، إذ احتمل الوجهين أن يدخلا جميعا في الحق ، لا يزال بعد أن ثبت إلا بالبيان ، ويبين ذا أن في الخبر تلك العدة التي أمر الله أن تطلق لقبلها النساء أنه الحيض حتى يكون قبله الطهر مع ما يحتمل عدة فعل الطلاق لا الانقضاء . يبين ذلك ما روي " أن عدة الأمة حيضتان ، وهي بعض عدة الحرة ، ووقت طلاقها وقت طلاق الحرة " [ الدارقطني : 3785 ] ، فبان أن العدة اثنتان ]{[2606]} .
[ والثاني : قوله : ( فإذا بلغن أجلهن ) والبلوغ اسم للتمام ، وفاسدة المراجعة من بعد الإشراف عليه ، وهو بالطهر لا يعلم حتى يرى الدم ، لأن الطهر لا غاية بها ، وذلك يمنع على قولهم الرجعة ، فثبت أنه الحيض لأن له الغاية . وإن لم ينقطع الدم وقت [ ابتداء الحرمة ، ربما كان الطلاق وقت ابتداء الحرمة ]{[2607]} ، وذلك طهر ، ووقت تقضي العدة وقت تمام ذلك ، فهو الطهر مع ما يقتضي سلب الملك بالطلاق ، ووقته الطهر ، وبقية الملك يقتضي العدة ، فيجب أن يكون وقته الطهر على حق جميع الفروع مع الأصول وإلحاق التوابع بالمتبوعين ، ولا قوة إلا بالله .
وقوله تعالى : ( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ) والإيلاء هو اليمين في اللغة ؛ يدل على ذلك حرف ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنه حين قرأ : الذين يقسمون{[2608]} من نسائهم ]{[2609]} .
ثم اختلف فيه على وجوه : قال ابن مسعود رضي الله عنه : ( الإيلاء على يوم فقط ، وأما التربص فأربعة أشهر لأنه لم يذكر في الكتاب للإيلاء مدة ، وإنما ذكر المدة للتربص ) [ إلى هذا ذهب ابن مسعود ]{[2610]} ، وقال ابن عباس : [ رضي الله عنه ]{[2611]} { الإيلاء على الأبد ؛ ذهب في ذلك إلى أن الإيلاء كان طلاق القوم{[2612]} ، والطلاق يقع إلى الأبد ، وقال آخرون : من ترك القربان في حال الغضب فهو مؤل ، وإن لم يحلف ، لكن هذا ليس بشيء ؛ لأن الله تعالى ذكر الإيلاء ، [ والإيلاء ]{[2613]} هي اليمين ؛ دليله ما ذكرنا .
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رجلا سأله : أنه حلف ألا يقرب امرأته سنتين ؟ فقل : ( إيلاء ، وإنها تبين{[2614]} إذا مضت أربعة أشهر ، فقال : إنما حلفت ذلك لمكان ولدي ، فقال : لا يكون إيلاء ) فرأى في ذلك إيلاء إذا كان عاصيا ، وإذا كان إيلاؤه وترك قربانه إياها بمكان الولد لم ير ذلك إيلاء . ثم لا يجوز أن يحمل ما حمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه واعتباره بالعصيان وغير العصيان فالإيلاء هو اليمين ، والأيمان لا يختلف وجوبها ووجوب أحكامها في حال العصيان وفي حال الطاعة ، فعلى ذلك حكم الإيلاء .
ولو حمل ما حمل ابن مسعود رضي الله عنه لكان لا يبقى الإيلاء بعد مضي اليوم فإذا لم يكن يمين بعد اليوم لم يبق حكمها ، ولو حمل على ما قال ابن عباس رضي الله عنه لكان لا فائدة لذكر التربص ؛ فإذا بطل / 38-أا ذكرنا ثبت قولنا : إن مدة الإيلاء إذا قصرت عن أربعة أشهر لم يلزمه حكم الإيلاء ، ولو كان على الأبد لكان لا فائدة في ذكر المدة ، وألا يعتبر العصيان ولا الطاعة ولا الغضب ولا الرضا على ما ذكرنا .
وروي في بعض الأخبار أنه قال : الإيلاء ليس بشيء ؛ معناه ما قيل : إن الإيلاء كان طلاق القوم{[2615]} ؛ فقوله : ليس بشيء ، يقع للحال دون مضي المدة قبل أن يفيء إليها في المدة .
وقال أصحابنا ، رحمهم الله تعالى : إذا مضت أربعة أشهر وقع الطلاق ، وقال قوم : [ إنه يوقف بعد مضي المدة ؛ فإما أن يفيء إليها ، وإما أن يطلقها ]{[2616]} واحتجوا في ذلك إلى أن الله تعالى ذكر الفيء بعد أربعة أشهر بقوله : ( تربص أربعة أشهر فإن فاءوا ) لذلك كان له الفيء بعد مضي [ أربعة ]{[2617]} الأشهر ، وروي في بعض الأخبار الوقف فيه . روي عن عمر وعلي وعثمان وعائشة وابن عمر رضوان الله عنهم في المؤلي : إذا مضت أربعة أشهر ؛ فإما أن يفيء ، وإما أن يطلق . إلى هذا يذهبون ، لكن هذا يحتمل أن يكون من الراوي دون أن يكون ما قالت الصحابة .
أما عندنا أن قولهم ذكر الفيء بعد ( تربص أربعة أشهر ) فذلك لا يوجب الفيء بعد مضيها ؛ ألا ترى أن قوله : ( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ) [ الطلاق : 2 ] ليس أن يمسكها بعد مضي الأجل ، ولكن معناه : إذا قرب انقضاء{[2618]} ( أجلهن فأمسكوهن ) ؟ فعلى ذلك جعل لهم الفيء إذا قرب انقضاء{[2619]} أربعة أشهر . وأما ما روي من الوقف فليس فيه الوقف بعد مضي أربعة أشهر يحتمل الوقف في أربعة الأشهر . وأما عندنا فإنها تبين إذا مضت أربعة أشهر لما روي عن سبعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثمانية من نحو عمر وعلي وابن عباس وجابر وزيد بن ثابت [ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ]{[2620]} [ أنهم قالوا : إذا مضت أربعة أشهر بانت منه ]{[2621]} ، فاتبعناهم .
ثم اختلف في الطلاق إذا وقع [ في وجهين :
أحدهما : ما ]{[2622]} قال قوم : هو رجعي ، هو قول أهل المدينة ؛ فهو على قولهم : لعنت{[2623]} ؛ لأن الزوج يقدم إلى الحاكم ، فيطلق أمام الحاكم ، ثم كان له حق المراجعة [ فيكفون الحاكم العنت ]{[2624]} .
وأما عندنا فهو بائن ، وعلى ذلك جاءت الأخبار : روي عن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه ]{[2625]} قال : ( إذا مضت أربعة فهي تطليقة بائنة ) وعن ابن مسعود رضي الله عنه مثله ، وروي عن أبي [ بن كعب ]{[2626]} في قوله : ( فإن فاءوا ) ( فيهن{[2627]} يعني في أربعة الأشهر ( فإن الله غفور رحيم ) فثبت أنه جعل الرحمة والمغفرة فيها .
والثاني{[2628]} : قوله : ( ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ) [ النحل : 91 ] ؛ ولو لم يجعل له القربان والنقض في المدة لكان لا سبيل له إلى نقضها بعد مضي المدة ، إذ هي مؤكدة{[2629]} ، فثبت أنه لا بما اعتبروا{[2630]} .
ثم قوله : ( فإن الله غفور رحيم ) يحتمل وجهين : [ يحتمل ]{[2631]} بما جعل له الخروج مما ضيق على نفسه لئلا{[2632]} تطول عليه المدة ، ويحتمل أن المغفرة كانت بما ارتكب ما إذا مضى عليه وجد [ أنه مستحق ]{[2633]} للعقوبة ، فغفر له صنيعه ، ورحمه بأن يجاوز عنه ما فعل .