تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{للذين يؤلون}: يقسمون {من نسائهم}: فهو الرجل يحلف أن لا يقرب امرأته، {تربص أربعة أشهر}
{فإن فاءوا} يعني فإن رجع في يمينه فجامعها قبل أربعة أشهر، فهي امرأته، وعليه أن يكفر عن يمينه، {فإن الله غفور} لهذه اليمين، {رحيم} به، إذ جعل الله عز وجل الكفارة فيها، لأنه لم يكن أنزل الكفارة في المائدة، ثم نزلت بعد ذلك الكفارة في المائدة...
قال الله: {لِّلذِينَ يُولُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِن فَاءو فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا اَلطَّلَاقَ فَإِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فقال الأَكْثَرُ مِمَّن رُويَ عنه من أصحاب النبي عندنا: إذا مَضَت أربعةُ أَشهر وُقِفَ المُولي، فإمَّا أن يَفِيءَ، وإما أن يُطَلِّق. وروي عن غيرهم من أصحاب النبي: عزيمة الطلاق انقضاء أربعة أشهر. ولم يُحفَظْ عن رسول الله في هذا -بأبي هو وأمي- شيئاً.
قال: فأي القولين ذهبت؟ قلت: ذهبت إلى أن المولي لا يلزمه طلاق، وأن امرأته إن طلبت حَقَّها منه لم أَعْرض له حتى تمضي أربعة أشهر فإذا مضت أربعة أشهر قلت له: فِئ أو طلِّق. والفَيْئَةُ: الجِمَاعُ. قال: فكيف اخترته على القول الذي يخالفه؟ قلتُ: رأيته أشبه بمعنى كتاب الله وبالمعقول. قال: وما دَلَّ عليه من كتاب الله؟ قلتُ: لما قال الله: {لِّلذِينَ يُولُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}: كان الظاهر في الآية أَنَّ من أَنْظَرَهُ الله أربعة أشهر في شيء لم يكن له عليه سبيل حتى تمضي أربعة أشهر. قال: فقد يُحْتَمَلُ أن يكون الله عز وجل جَعَلَ لَهُ أربعة أشهر يَفِيءُ فيها، كما تقول: قد أجَّلْتُكَ في بناء هذه الدار أربعة أشهر تفرغ فيها منها...
وليس في الفيئة دِلالة على أن لا يَفِيءَ إلا مُضِيُّهَا، لأن الجماع يكون في طرفة عين، فلو كان على ما وصفْتَ تزايل حاله حتى تمضي أربعة أشهر، ثم تزايل حالُهُ الأولى، فإذا زايلها صار إلى أنَّ لله عليه حقاً، فإما أن يفيء وإما أن يطلق. فلو لم يكن في آخر الآية ما يدل على أن معناها غيرُ ما ذهبتَ إليه كان قوله أولاهما بها، لما وصفنا، لأنه ظاهرها. والقرآن على ظاهره، حتى تأتي دلالة منه أو سنة أو إجماع بأنه على باطن دون ظاهر. قال: فما في سياق الآية ما يدل على ما وصفت؟ قلت: لما ذكر الله عز وجل أن للمولي أربعة أشهر ثم قال: {فَإِن فَاءو فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا اَلطَّلَاقَ فَإِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فذكر الحُكْمَيْنِ معا بلا فَصْلٍ بينهما: أنهما إنما يقعان بعد الأربعة الأشهر، لأنه إنما جعل عليه الفيئة أو الطلاق، وجعل له الخيار فيهما في وقت واحد، فلا يتقدمُ واحد منهما صاحبَهُ وقد ذكرا في وقت واحد، كما يقال له في الرهن: أفْدِهِ أو نَبِيعَهُ عليك، بِلا فَصْلِ؛ وفي كل ما خُيِّرَ فيه: افعل كذا أو كذا، بلا فصلٍ. ولا يجوز أن يكونا ذُكرا بلا فصلٍ فيقال الفيئة فيما بين أن يولي أربعة أشهر، وعزيمة الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر، فيكونان حُكْمَيْنِ ذُكِرا معًا، يُفسحُ في أحدهما ويُضيَّقُ في الآخر. قال: فأنت تقول: إن فاء قبل الأربعة الأشهر فهي فيئة؟ قلتُ: نعم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"لِلّذِينَ يُؤْلُونَ" الذين: يقسمون ألية، والأَلِيّة: الحلف. ومعنى الكلام: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم تربص أربعة أشهر، فترك ذكر أن يعتزلوا اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام عليه.
واختلف أهل التأويل في صفة اليمين التي يكون بها الرجل مؤليا من امرأته؛ فقال بعضهم: اليمين التي يكون بها الرجل مؤليا من امرأته، أن يحلف عليها في حال غضب على وجه الإضرار لها أن لا يجامعها في فرجها، فأما إن حلف على غير وجه الإضرار على غير غضب فليس هو موليا منها. وقال آخرون: سواء إذا حلف الرجل على امرأته أن لا يجامعها في فرجها كان حلفه في غضب أو غير غضب، كل ذلك إيلاء. وقال آخرون: كل يمين حلف بها الرجل في مساءة امرأته فهي إيلاء منه منها على الجماع، حلف أو غيره، في رضا حلف أو سخط. وعلة من قال: إنما الإيلاء في الغضب والضرار، أن الله تعالى ذكره إنما جعل الأجل الذي أجل في الإيلاء مخرجا للمرأة من عضل الرجل وضراره إياها فيما لها عليه من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف. وإذا لم يكن الرجل لها عاضلاً، ولا مضارّا بيمينه وحلفه على ترك جماعها، بل كان طالبا بذلك رضاها، وقاضيا بذلك حاجتها، لم يكن بيمينه تلك موليا، لأنه لا معنى هنالك يلحق المرأة به من قبل بعلها مساءة وسوء عشرة، فيجعل الأجل الذي جعل المولي لها مخرجا منه.
وأما علة من قال: الإيلاء في حال الغضب والرضا سواء عموم الآية، وأن الله تعالى ذكره لم يخصص من قوله: لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهمْ تَرَبّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ بعضا دون بعض، بل عمّ به كل مول مقسم، فكل مقسم على امرأته أن لا يغشاها مدة هي أكثر من الأجل الذي جعل الله له تربصه، فمؤلٍ من امرأته عند بعضهم. وعند بعضهم: هو مؤلٍ، وإن كانت مدة يمينه الأجل الذي جعل له تربصه.
وأما علة من قال أن الله تعالى ذكره جعل الأجل الذي حدّه للمولي مخرجا للمرأة من سوء عشرتها بعلها إياها وإضراره بها. وليست اليمين عليها بأن لا يجامعها ولا يقربها بأولى بأن تكون من معاني سوء العشرة والضرار من الحلف عليها أن لا يكلمها أو يسوءها أو يغيظها لأن كل ذلك ضرر عليها، وسوء عشرة لها.
وأولى التأويلات التي ذكرناها في ذلك بالصواب قول من قال: كل يمين منعت المقسم الجماع أكثر من المدة التي جعل الله المولي تربصها قائلاً في غضب كان ذلك أو رضا، وذلك للعلة التي ذكرناها قبل لقائلي ذلك.
"فإنْ فاءُوا فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ": فإن رجعوا إلى ترك ما حلفوا عليه أن يفعلوه بهنّ من ترك جماعهن فجامعوهن وحنثوا في أيمانهم، فإن الله غفور لما كان منهم من الكذب في أيمانهم بأن لا يأتوهن ثم أتوهن، ولما سلف منهم إليهن من اليمين على ما لم يكن لهم أن يحلفوا عليه، فحلفوا عليه رحيم بهم وبغيرهم من عباده المؤمنين. وأصل الفيء: الرجوع من حال إلى حال، ومنه قوله تعالى ذكره: "وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتلُوا فأصْلِحُوا بَيْنَهُما" إلى قوله: "حتى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللّهِ" يعني: حتى ترجع إلى أمر الله...الفيء في كل الأشياء بمعنى الرجوع.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أنهم اختلفوا فيما يكون به المؤلي فائيا؛ فقال بعضهم: لا يكون فائيا إلا بالجماع... عن ابن عباس، قال: الفيء: الجماع.
وقال آخرون: الفيء: المراجعة باللسان أو القلب في حال العذر، وفي غير حال العذر الجماع. وقال آخرون: الفيء: المراجعة باللسان بكل حال... عن الحسن، قال: الفيء: الإشهاد.
وإنما اختلف المختلفون في تأويل الفيء على قدر اختلافهم في معنى اليمين التي تكون إيلاء، فمن كان من قوله: إن الرجل لا يكون مؤليا من امرأته الإيلاء الذي ذكره الله في كتابه إلا بالحلف عليها أن لا يجامعها، جعل الفيء الرجوع إلى فعل ما حلف عليه أن لا يفعله من جماعها، وذلك الجماع في الفرج إذا قدر على ذلك وأمكنه، وإذا لم يقدر عليه ولم يمكنه، فإحداث النية أن يفعله إذا قدر عليه وأمكنه وإبداء ما نوى من ذلك بلسانه ليعلمه المسلمون في قول من قال ذلك.
وأما قول من رأى أن الفيء هو الجماع دون غيره، فإنه لم يجعل العائق له عذرا، ولم يجعل له مخرجا من يمينه غير الرجوع إلى ما حلف على تركه وهو الجماع.
وأما من كان من قوله: إنه قد يكون مؤليا منها بالحلف على ترك كلامها، أو على أن يسوءها أو يغيظها، أو ما أشبه ذلك من الأيمان، فإن الفيء عنده الرجوع إلى ترك ما حلف عليه أن يفعله مما فيه مساءتها بالعزم على الرجوع عنه وإبداء ذلك بلسانه في كل حال عزم فيها على الفيء.
وأولى الأقوال بالصحة في ذلك عندنا قول من قال: الفيء: هو الجماع لأن الرجل لا يكون مؤليا عندنا من امرأته إلا بالحلف على ترك جماعها المدة التي ذكرنا للعلل التي وصفنا قبل. فإذّ كان ذلك هو الإيلاء فالفيء الذي يبطل حكم الإيلاء عنه لا شك أنه غير جائز أن يكون إلا ما كان الذي آلى عليه خلافا لأنه لما جعل حكمه إن لم يفئ إلى ما آلى على تركه الحكم الذي بينه الله لهم في كتابه كان الفيء إلى ذلك معلوما أنه فعل ما آلى على تركه إن أطاقه، وذلك هو الجماع، غير أنه إذا حيل بينه وبين الفيء الذي هو الجماع بعذر، فغير كائن تاركا جماعها على الحقيقة، لأن المرء إنما يكون تاركا ماله إلى فعله وتركه سبيل، فأما من لم يكن له إلى فعل أمر سبيل، فغير كائن تاركه. وإذ كان ذلك كذلك فإحداث العزم في نفسه على جماعها مجزئ عنه في حال العذر، حتى يجد السبيل إلى جماعها. وإن أبدى ذلك بلسانه وأشهد على نفسه في تلك الحال بالأوبة والفيء كان أعجب إليّ.
"فَإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ".
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: فإن الله غفور لكم فيما اجترمتم بفيئكم إليهن من الحنث في اليمين التي حلفتم عليهنّ بالله أن لا تغشوهن، رحيم بكم في تخفيفه عنكم كفارة أيمانكم التي حلفتم عليهن ثم حنثتم فيها.
وهذا التأويل الذي ذكرنا هو التأويل الواجب على قول من زعم أن كل حانث في يمين هو في المقام عليها حَرِجٌ، فلا كفارة عليه في حنثه فيها، وإن كفارته الحنث فيها. وأما على قول من أوجب على الحانث في كل يمين حلف بها برّا كان الحنث فيها أو غير برّ، فإن تأويله: فإن الله غفور للمؤلين من نسائهم فيما حنثوا فيه من إيلائهم، فإن فاءوا فكفروا أيمانهم بما ألزم الله الحانثين في أيمانهم من الكفارة، رحيم بهم بإسقاطه عنهم العقوبة في العاجل والاَجل على ذلك بتكفيره إياه بما فرض عليهم من الجزاء والكفارة، وبما جعل لهم من المهل الأشهر الأربعة، فلم يجعل فيها للمرأة التي آلى منها زوجها ما جعل لها بعد الأشهر الأربعة. [عن] عكرمة قال: وتلك رحمة الله ملكه أمرها الأربعة الأشهر إلا من معذرة، لأن الله قال: وَاللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِعِ.
عن ابن عباس قوله: "لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائهِمْ تَرَبّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ": وهو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها، فيتربص أربعة أشهر، فإن هو نكحها كفر يمينه بإطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.
قال أبو جعفر: وهذا التأويل الثاني هو الصحيح عندنا في ذلك لما قد بينا من العلل في كتابنا «كتاب الأيمان» من أن الحنث موجب الكفارة في كل ما ابتدئ فيه الحنث من الأيمان بعد الحلف على معصية كانت اليمين أو على طاعة.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
كان ذلك من ضرار أهل الجاهلية، كان الرجل لا يريد المرأة ولا يحبّ أن يتزوجها غيره يحلف ألاّ يقربها أبداً، وكان يتركها كذلك لا أيّماً ولا ذات بعل، وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية وفي الإسلام، فجعل الله الأجل الذي يعلم به عند الرجل في المرأة وهي أربعة أشهر، فأنزل الله تعالى {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ}.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} فلما تقاصر لسان الزوجة -لكونها أسيراً في يد الزوج- تَوَلَّى الله -سبحانه- الأمر بمراعاة حقها فأمر الزوج بالرجوع إليها أو تسريحها...
أما قوله تعالى: {تربص أربعة أشهر} فاعلم أن التربص: التلبث والانتظار، يقال: تربصت الشيء تربصا، ويقال: ما لي على هذا الأمر ربصة، أي تلبث، وإضافة التربص إلى أربعة أشهر إضافة المصدر إلى الظرف كقوله: بينهما مسيرة يوم، أي مسيرة في يوم ومثله كثير.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
ختم حكم الفيء، الذي هو الرجوع والعود إلى رضى الزوجة، والإحسان إليها: بأنه غفور رحيم، يعود على عبده بمغفرته ورحمته، إذا رجع إليه. والجزاء من جنس العمل. فكما رجع العبد إلى التي هي أحسن، رجع الله إليه بالمغفرة والرحمة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الإيلاء حلفاً مقيداً وبين حكم مطلق اليمين قبله لتقدم المطلق على المقيد بانفكاكه عنه بينه دليلاً على حلمه حيث لم يؤاخذهم به فقد كانوا يضارون به النساء في الجاهلية بأن يحلفوا على عدم الوطء أبداً فتكون المرأة لا أيماً ولا ذات بعل وجعل لهم فيه مرجعاً يرجعون إليه فقال في جواب من كأنه سأل عنه لما أشعر به ما تقدم: {للذين يؤلون} أي يحلفون حلفاً مبتدئاً {من نسائهم} في صلب النكاح أو علقة الرجعة بما أفادته الإضافة بأن لا يجامعوهن أبداً أو فوق أربعة أشهر فالتعدية بمن تدل على أخذ في البعد عنهن.
قال الحرالي: والإيلاء تأكيد الحلف و تشديده سواء [أكانوا] أحراراً [أم] عبيداً [أم] بعضاً وبعضاً في حال الرضى أو الغضب محبوباً كان [أم] لا لأن المضارة حاصلة بيمينه {تربص} أي إمهال وتمكث يتحمل فيه الصبر الذي هو مقلوب لفظه -...
{أربعة أشهر} ينتظر فيها رجوعهم إليهن حلماً من الله سبحانه وتعالى حيث لم يجعل الأمر بتا حين الحلف بفراق أو وفاق.
قال الحرالي: ولما كان لتخلص المرأة من الزوج أجل عدة كان أجلها مع أمد هذا التربص كأنه -والله سبحانه وتعالى أعلم- هو القدر الذي تصبر المرأة عن زوجها. يذكر أن عمر رضي الله تعالى عنه سأل النساء عن قدر ما تصبر المرأة عن الزوج، فأخبرنه أنها تصبر ستة أشهر، فجعل ذلك أمد البعوث فكان التربص والعدة قدر ما تصبره المرأة عن زوجها، وقطع سبحانه وتعالى بذلك ضرار الجاهلية في الإيلاء إلى غير حد...
ولما كان حالهم بعد ذلك مردداً بين تعالى قسميه فقال مفصلاً له {فإن فاؤوا} أي رجعوا في الأشهر، وأعقبها عن المفاصلة إلى المواصلة، من الفيء وهو الرجوع إلى ما كان منه الانبعاث {فإن الله} يغفر لهم ما قارفوه في ذلك من إثم ويرحمهم بإنجاح مقاصدهم لأنه {غفور رحيم} له هاتان الصفتان ينظر بهما إلى من يستحقهما فيغفر ما في ذلك من جناية منهما أو من أحدهما إن شاء ويعامل بعد ذلك بالإكرام.
قال الحرالي: وفي مورد هذا الخطاب بإسناده للأزواج ما يظافر معنى إجراء أمور النكاح على سترة وإعراض عن حكم الحكام من حيث جعل التربص له والفيء منه، فكأن الحكم من الحاكم إنما يقع على من هتك حرمة ستر أحكام الأزواج التي يجب أن تجري بين الزوجين من وراء ستر كما هو سر النكاح الذي هو سبب جمعهما ليكون حكم السر سراً وحكم الجهر جهراً...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
عند الانتهاء من تقرير القاعدة الكلية في الحلف، يأخذ في الحديث عن يمين الإيلاء: وهي أن يحلف الزوج ألا يباشر زوجته. إما لأجل غير محدود، وإما لأجل طويل معين: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر. فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم. وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم}.. إن هناك حالات نفسية واقعة، تلم بنفوس بعض الأزواج، بسبب من الأسباب في أثناء الحياة الزوجية وملابساتها الواقعية الكثيرة، تدفعهم إلى الإيلاء بعدم المباشرة، وفي هذا الهجران ما فيه من إيذاء لنفس الزوجة؛ ومن إضرار بها نفسيا وعصبيا؛ ومن إهدار لكرامتها كأنثى؛ ومن تعطيل للحياة الزوجية؛ ومن جفوة تمزق أوصال العشرة، وتحطم بنيان الأسرة حين تطول عن أمد معقول.
ولم يعمد الإسلام إلى تحريم هذا الإيلاء منذ البداية، لأنه قد يكون علاجا نافعا في بعض الحالات للزوجة الشامسة المستكبرة المختالة بفتنتها وقدرتها على إغراء الرجل وإذلاله أو اعناته. كما قد يكون فرصة للتنفيس عن عارض سأم، أو ثورة غضب، تعود بعده الحياة أنشط وأقوى.. ولكنه لم يترك الرجل مطلق الإرادة كذلك، لأنه قد يكون باغيا في بعض الحالات يريد اعنات المرأة وإذلالها؛ أو يريد إيذاءها لتبقى معلقة، لا تستمتع بحياة زوجية معه، ولا تنطلق من عقالها هذا لتجد حياة زوجية أخرى. فتوفيقا بين الاحتمالات المتعددة، ومواجهة للملابسات الواقعية في الحياة. جعل هنالك حدا أقصى للإيلاء. لا يتجاوز أربعة أشهر. وهذا التحديد قد يكون منظورا فيه إلى أقصى مدى الاحتمال، كي لا تفسد نفس المرأة، فتتطلع تحت ضغط حاجتها الفطرية إلى غير رجلها الهاجر.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي للانتقال إلى تشريع في عمل كان يغلب على الرجال أن يعملوه في الجاهلية، والإسلام. كان من أشهر الأيمان الحائلة بين البر والتقوى والإصلاح، أيمان الرجال على مهاجرة نسائهم، فإنها تجمع الثلاثة؛ لأن حسن المعاشرة من البر بين المتعاشرين، وقد أمر الله به في قوله: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء: 19] فامتثاله من التقوى، ولأن دوامه من دوام الإصلاح، ويحدث بفقده الشقاق، وهو مناف للتقوى. وقد كان الرجل في الجاهلية يولي من امرأته السنة والسنتين، ولا تنحل يمينه إلاّ بعد مضي تلك المدة، ولا كلام للمرأة في ذلك.
ومجيء اللام في {للذين يؤلون} لبيان أن التربص جعل توسعة عليهم، فاللام للأَجْل مثل هَذا لَكَ ويعلم منه معنى التخيير فيه، أي ليس التربص بواجب، فللمولى أَن يفيء في أقل من الأشهر الأربعة. وعَزم الطلاق: التصميم عليه، واستقرار الرأي فيه بعد التأمل وهو شيء لا يحصل لكل مُولٍ من تلقاء نفسه، وخاصة إذا كان غالب القصد من الإيلاء المغاضبة والمضارة
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} هذه إحدى الأيمان التي لو استمسك بها الحالف كانت محاجزة ممانعة دون البر والتقوى.
فهي من جهة تطبيق عملي للحكم الذي قرره العلي القدير في قوله تعالى {و لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم.
ومن جهة ثانية هي بيان لحكم حال تعرض في أثناء العشرة الزوجية، وذلك جزء من موضوع الأسرة الذي ابتدأه سبحانه بقوله: {و يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير} (البقرة 220) أو بقوله تعالى: {و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} (البقرة 221) على حسب الاختلاف في معنى الأسرة من حيث العموم والخصوص.
إن العشرة الزوجية أنس وإلف والتقاء روحي وجسدي بتحقيق ما يتقاضاه الطبع الإنساني، والإنسال، ليبقى الإنسان في هذه الأرض يعمرها إلى أن يقضي الله سبحانه وتعالى أمرا كان مفعولا، فإذا جاء الرجل وهو القوام على الأسرة وهو رأسها وعمادها، واشتط واتخذ المضارة والكيد، بدل أن يؤلف القلوب ويؤنس النفوس ويربط بالمودة بينه وبين أهله، إذا فعل ذلك فإن الجو يعتكر، والأمور تضطرب، وتحل البغضاء محل المحبة، والمضرة محل المودة، فوجب أن تنتهي هذه الحال إما بإعادة الود إلى صفائه، وإما بفصم عرى الزوجية التي صارت لا تنتج إلا نكدا.
و إن من أشد مظاهر المضارة والمكايدة القطيعة في المضجع، والهجر غير الجميل في المبيت، فإنه أذى شديد، لا لأنه امتناع عن قضاء الوطر، بل لأنه يدل على البغض الشديد، ولا شيء يفعل في نفس المرأة أشد من الإحساس بالبغض من العشير والضجيع الذي وهبت له نفسها، وأعطته قلبها، فكان منه ذلك النكر وذلك الهجر. و لقد جعل الله سبحانه وتعالى أقصى غاية الصبر منها هو أربعة أشهر، وبعدها يكون الفصم، وإنهاء تلك الحياة الزوجية التي تحكمت بين الزوجين فيها البغضاء.
{فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم} وإن تلك المهلة التي أعطيها الزوج يتربص فيها وينتظر، والله يرقبه، و الشرع يترقبه، إنما هي لكي يقلع عن الظلم وتعود المودة إلى ما كانت عليه، ويؤدم بينهما بحياة رفيقة يقطعانها، فإن فاء إلى زوجه أي رجع إلى مضجعه الذي هجره، وقرب من امرأته ومسها، وحنث في يمينه، كفر إذ جعل الله سبحانه وتعالى الكفارة تحلة الأيمان، وعندئذ يغفر الله سبحانه ما كان منه، ولذا قال سبحانه: {فإن الله غفور رحيم} أي أن الله سبحانه وتعالى يغفر لهم ما فرط منهم في جنب أهلهم، والقطيعة التي كانت منهم ما داموا قد رأبوا الصدع وعادوا إلى رشدهم وطيبوا قلوب أهلهم، وأقاموا المودة، وملئوا البيت أنسا بعد أن ملئوه وحشة، ويغفر لهم سبحانه حنثهم في يمينهم، لأن الله سبحانه لا يريد إلا إصلاح حالهم، ولا ينقص من عظمته وجلاله أن يحنث عبد في قسمه، ما دام الخير يريد والشر يجتنب، والله سبحانه وتعالى رحيم بعباده في أن جعل لهم تحلة أيمانهم كفارة يستطيعونها وأن غفر لهم الحنث، وأن دعاهم إلى ذلك الحنث رحمة بالأسرة من أن تتهدم أركانها، وتتقطع أوصالها وتذهب المودة بين العشير وعشيره، والأليف وأليفه، ورحيم بهم في أن غفر لهم ما فرط من كل منهما في حق أخيه إذا أعادا المودة إلى سابق أمرها بعد أن كاد الهجر يقطعها.
والإسلام يريد أن يبني الحياة الزوجية على أساس واقعي لا على أفكار مجنحة ومجحفة لا تثبت أمام الواقع، فهو يعترف بالميول فيعليها ولكن لا يهدمها، ويعترف بالغرائز فلا يكتمها ولكن يضبطها. فالله يعلم أن للنفس نوازع ومتغيرات، ومن الجائز جدا أن يحدث خلاف بين الزوجين، فيجعل الله سبحانه وتعالى متنفسا يتنفس فيه الزوج للتأديب الذي ينشد التهذيب والإبقاء، فشرع للرجل إن رأى في امرأته إذلالا له بجمالها وبحسنها، وقد يكون رجل له مزاج خاص ورغبة جامحة في هذه العملية؛ لذلك شرع الله له فترة من الفترات أن يحلف ألا يقرب امرأته، ولم يجعل الله تلك الفترة مطلقة، إنما قيدها بالحلف حتى يكون الأمر مضبوطا.