البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لِّلَّذِينَ يُؤۡلُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ تَرَبُّصُ أَرۡبَعَةِ أَشۡهُرٖۖ فَإِن فَآءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (226)

الإيلاء : مصدر آلى ، أي : حلف ، ويقال : تألى وأيتلى ، أي : حلف ، ويقال للحلف : ألية وألوّة وإلوة ، وجمع ألية ألايا ، كعشية وعشايا .

وقيل : تجمع ألوة على ألايا كركوبة وركائب .

التربص : الترقب والانتظار ، مصدر : تربص وهو مقلوب التبصر ، قال :

تربص بها ريب المنون لعلها***

تطلق يوماً أو يموت حليلُها

فاء : يفيء فيأ وفيأةً ، رجع ، وسمي الظل بعد الزوال فيأً ، لأنه رجع عن جانب المشرق إلى المغرب ، وهو سريع الفيأة أي : الرجوع ، وقال علقمة :

فقلت لها فيئي فما تستفزين***

ذوات العيون والبنان المخضب

{ للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } قال ابن المسيب : كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية ، كان الرجل لا يترك المرأة ، ولا يحب أن يتزوجها غيره فيحلف أن لا يقربها ، فيتركها لا أيماً ، ولا ذات زوج ، فأنزل الله هذه الآية .

وقال ابن عباس : كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر ، فوقت الله ذلك .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، لأنه تقدّم شيء من أحكام النساء ، وشيء من أحكام الإيمان ، وهذه الآية جمعت بين الشيئين .

وقرأ عبد الله : للذين آلوا ، بلفظ الماضي وقرأ أبي ، وابن عباس : للذين يقسمون .

والإيلاء ، كما تقدّم ، هو الحلف ، وقد ذكرنا الإيلاء من النساء كيف كان في الجاهلية ، وأما الإيلاء الشرعي بسبب وطء النساء ، فقال ابن عباس : هو الحلف أن لا يطأها أبداً ، وقال ابن مسعود ، والنخعي ، وقتادة ، والحكم ، وابن أبي ليلى ، وحماد بن سليمان ، وإسحاق : هو الحلف أن لا يقربها يوماً أو أقل أو أكثر ، ثم لا يطأها أربعة أشهر ، فتبين منه بالإيلاء .

وقال الثوري ، وأبو حنيفة : هو الحلف أن لا يطأها أربعة أشهر ، وبعد مضيها يسقط الإيلاء ، ويكون الطلاق ، ولا تسقط قبل المضي إلا بالفيء ، وهو الجماع في داخل المدّة .

وقال الجمهور : هو الحلف أن لا يطأ أكثر من أربعة أشهر ، فإن حلف على أربعة أشهر ، أو ما دونها ، فليس بمولٍ ، وكانت يميناً محضاً ، لو وطأ في هذه المدّة لم يكن عليه شيء كسائر الأيمان ، وهذا قول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبي ثور .

والظاهر من الآية أن الإيلاء هو الحلف على الامتناع من وطء امرأته مطلقاً ، غير مقيد بزمان ، وظاهر قوله : للذين يؤلون ، شمول الحر والعبد ، والسكران والسفيه ، والمولى عليه غير المجنون ، والخصي غير المجبوب ، ومن يرجى منه الوطء ، وكذا الأخرس بما يفهم عنه من كناية أو إشارة .

واختلف في المجبوب فقيل : لا يصح إيلاؤه ، وقيل : يصح ، وأجل إيلاء العبد كأجل إيلاء الحرّ لاندراجه في عموم قوله : للذين يؤلون ، وبه قال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وابن المنذر ؛ وقال عطاء ، والزهري ، ومالك ، وإسحاق : أجله شهران ؛ وقال الحسن ، والنخعي ، وأبو حنيفة : إيلاؤه من زوجته الأمة شهران ، ومن الحرّة أربعة وقال الشعبي : أجل إيلاء الأمة نصف إيلاء الحرّة .

وظاهر قوله : يؤلون ، مطلق الإيلاء ، فيحصل ، سواء كان ذلك قصد به إصلاح ولد رضيع ، أو لم يقصد ، وسواء كان في مغاضبة ومسارّة ، أو لم يكن ، وقال عطاء ، ومالك : إذا كان لإصلاح ولد رضيع فليس يلزمه حكم الإيلاء ، وروي ذلك عن علي ، وبه قال الشافعي في أحد قوليه ، والقول الآخر : إنه لا اعتبار برضاع ، وبه قال أبو حنيفة .

وقال علي ، وابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، والشعبي ، والليث : شرطه أن لا يكون في غضب .

وقال ابن مسعود ، وابن سيرين ، والثوري ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، الإيلاء في غضب وغير غضب .

قال ابن المنذر : وهو الأصح لعموم الآية ، ولإجماعهم على أن الظهار والطلاق وسائر الأيمان سواء في الغضب والرضى ، وكذلك الإيلاء ، والجمهور حملوا قوله { للذين يؤلون من نسائهم } على الحلف على إمتناع الوطء فقط ؛ وقال الشعبي ، والقاسم ، وسالم ، وابن المسيب : هو الحلف على الامتناع من أن يطأها ، أو لا يكلمها ، أو أن يضارها ، أو يغاضبها .

فهذا كله عند هؤلاء إيلاء ، إلاَّ أن ابن المسيب قال : إذا حلف لا يكلمها وكان يطأها فليس بإيلاء ، وإنما تكون تلك إيلاء إذا اقترن بها الامتناع من الوطء .

وأقوال من ذكر مع ابن المسيب قالوا ما محتمله ما قاله ابن المسيب ، وما يحتمله أن فساد العشرة إيلاء ، وإلى هذا الاحتمال ذهب الطبري .

وظاهر الآية يدل على مذهب هؤلاء ، لأنه قال : { للذين يؤلون من نسائهم } فلم ينص على وطء ولا غيره .

و : من ، يتعلق بقوله : يؤلون ، وآلى لا يتعدّى بمن ، فقيل : من ، بمعنى : على ، وقيل : بمعنى في ، ويكون ذلك على حذف مضاف ، أي : على ترك وطء نسائهم ، أو في ترك وطء نسائهم .

وقيل : من ، زائدة والتقدير : يؤلون أن يعتزلوا نساءهم .

وقيل : يتعلق بمحذوف ، والتقدير : للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ، فتتعلق بما تتعلق به لهم المحذوف ، قاله الزمخشري ، وهذا كله ضعيف ينزه القرآن عنه ، وإنما يتعلق بيؤلون على أحد وجهين : إما أن يكون : من ، للسبب أي : يحلفون بسبب نسائهم ، وإما أن يضمن الإيلاء معنى الامتناع ، فيعدى بمن ، فكأنه قيل : للذين يمتنعون بالإيلاء من نسائهم ، و : من نسائهم ، عام في الزوجات من حرة وأمّة وكتابية ومدخول بها وغيرها .

وقال عطاء ، والزهري ، والثوري : لا إيلاء إلاَّ بعد الدخول .

وقال مالك ، لا إيلاء من صغيرة لم تبلغ ، فان آلى منها فبلغت لزم الإيلاء من يوم بلوغها .

وظاهر قوله : للذين يؤلون ، عموم الإيلاء بأي يمين كانت ، قال الشافعي في ( الجديد ) : لا يقع الإيلاء إلاَّ بالحلف بالله وحده .

وقال ابن عباس : كل يمين منعت جماعاً فهي إيلاء ، وبه قال النخعي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأهل العراق ، ومالك ، وأهل الحجاز ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، وابن المنذر ، والقاضي أبو بكر بن العربي ، والشافعي في القول الأخير .

وقال أبو حنيفة : إذا قال : أقسم بالله ، فهي يمين مطلقاً ولا يكون بها مولياً ، وإن قال : وإن وطئتك فعلي صيام شهر أو سنة فهو مول ؛ وقال أبو حنيفة : إن كان ذلك الشهر يمضي قبل الأربعة الأشهر فليس بمول ، وكذلك كل ما يلزمه من حج أو طلاق أو عتق أو صلاة أو صدقة ، وخالف أبو حنيفة فيما إذا قال : إن وطئتك فعليّ أن أصلي ركعتين أنه لا يكون مولياً .

وقال محمد : يكون مولياً .

وذكر بعض المفسرين هنا فروعاً كثيرة في الإيلاء ، وإنما نذكر نحن ماله بعض تعلق بالقرآن على عادتنا ، وليس التفسير موضوعاً لاستقراء جزئيات الفروع ، وظاهر قوله : للذين يؤلون ، حصول اليمين منهم ، سواء حلف أن لا يطأ في موضع معين ، أو مطلقاً ، وبه قال ابن أبي ليلى ، وإسحاق ، وقال أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأصحابهم ، والأوزاعي ، وأحمد : لا يكون مولياً من حلف أن لا يطأ زوجته في هذا البيت أو في هذه الدار فإن حلف أن لا يطأها في مصره أو بلده فهو مول عند مالك .

ولا يدخل الذمي في قوله : { للذين يؤلون } لقوله { فأن فاؤا فان الله غفور رحيم } وبه قال مالك ، كما لا يصح ظهار .

وقال أبو حنيفة إن حلف باسم من أسماء الله تعالى ، أو بصفة من صفاته ، أو حلف بما يصح منه كالطلاق ، فهو مول ؛ ولو استثنى المولي في يمينه فالجمهور على أنه لا يكون مولياً كسائر الأيمان المقرونة بالاستثناء ؛ وقال ابن القاسم ، عن مالك : يكون مولياً ، لكنه لو وطأ فلا كفارة عليه ، وقاله ابن الماجشون في ( المبسوط ) عن مالك : لا يكون مولياً .

{ تربص أربعة أشهر } هذا من باب إضافة المصدر إلى ما هو ظرف زمان في الأصل ، لكنه اتسع فيه فصير مفعولاً به ، ولذلك صحت الإضافة إليه ، وكان الأصل : تربصهم أربعة أشهر ، وليست الإضافة إلى الظرف من غير اتساع ، فتكون الإضافة على تقدير : في ، خلافاً لمن ذهب إلى ذلك .

وظاهر هذا ، أن ابتداء أجل الإيلاء من وقت حلف لا من وقت المخاصمة والرفع إلى الحاكم ، قيل : وحكمه ضرب أربعة أشهر ، لأنه غالب ما تصبر المرأة فيها عن الزوج ، وقصة عمر مشهور في سماع المرأة تنشد بالليل :

ألا طال هذا الليل واسود جانبه***

وأرقني أن لا حبيب ألاعبه

وسؤاله : كم تصبر المرأة عن زوجها ؟ فقيل له : لا تصبر أكثر من أربعة أشهر .

فجعل ذلك أمداً لكل سرية يبعثها .

{ فإن فاؤا } أي : رجعوا بالوطء ، قاله ابن عباس ، والجمهور ، ويكفي من ذلك عند الجمهور مغيب الحشفة للقادر ، فإن كان له عذر أو مرض أو سجن أو شبه ذلك ، فارتجاعه صحيح ، وهي امرأته ، وإن زال عذره فأبى الوطء فرق بينهما إن كانت المدة قد انقضت ، قاله مالك في ( المدونة ) و ( المبسوط ) .

وقال الحسن ، والنخعي ، وعكرمة ، والأوزاعي : يجزي المعذور أن يشهد على فيأته بقلبه ، وقال النخعي أيضاً : يصح الفيء بالقول ، والإشهاد فقط ، ويسقط حكم الإيلاء إذا رأيت أن لم ينتشر ، وقيل : الفيء هو الرضى ، وقيل : الرجوع باللسان بكل حال ، قاله أبو قلابة ، وإبراهيم ، ومن قال : إن المولي هو الحالف على مساءة زوجته ؛ وقال أحمد : إذا كان له عذر يفيء بقلبه ، وقال ابن جبير ، وابن المسيب ، وطائفة : الفيء لا يكون إلا بالجماع في حال القدرة وغيرها ، من سجن أو سفر أو مرض وغيره .

وأمال : فاؤا ، جرية بن عائذ لقوله : فئت ، وقرأ عبد الله فإن فاؤوا فيهنّ ، وقرأ أبي : فان فاؤا فيها ، وروي عنه : فيهنّ ، كقراءة عبد الله .

والضمير عائد على الأشهر ، ويؤيد هذه القراءة مذهب أبي حنيفة : بأن الفيئة لا تكون إلاَّ في الأشهر ، وإن لم يفىء فيها دخل عليه الطلاق من غير أن يوقف بعد مضي الأربعة الأشهر ، وإلى هذا ذهب : ابن مسعود ، وابن عباس ، وعثمان بن عفان ، وعلي ، وزيد بن ثابت ، وجابر بن زيد ، والحسن ، ومسروق ؛ وقال عمر ، وعثمان ، وعلي أيضاً ، وأبو الدرداء ، وابن عمر ، وابن عامر المسيب ، ومجاهد ، وطاووس ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد : إذا انقضت الأربعة الأشهر وقف ، فأما فاء وإلاَّ طلق عليه ؛ والقراءة المتواترة : فإن فاؤا بغيرهنّ ، ولا فيها ، فاحتمل أن يكون التقدير : فإن فاؤا في الأشهر ، واحتمل أن يكون : فإن فاؤا بعد انقضائها .

{ فإن الله غفور رحيم } استدل بهذا من قال : إنه إذا فاء المولى ووطأ فلا كفارة عليه في يمينه ، وإلى هذا ذهب الحسن ، وإبراهيم ؛ وذهب الجمهور مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم إلى إيجاب كفارة اليمين على المولي بجماع امرأته ، فيكون الغفران هنا إشعاراً باسقاط الإثم بفعل الكفارة ، وهو قول علي ، وابن عباس ، وابن المسيب : إنه غفران الإثم ، وعليه كفارة ، وعلى المذهب الذي قبله يكون بإسقاط الكفارة ، وقال أبو حنيفة : ولا كفارة على العاجز عن الوطء إذا فاء ، وقال إسحاق : قال بعض أهل التأويل فيمن حلف على بر وتقوى ، أو باب من أبواب الخير أن لا يفعله أنه يفعله ، ولا كفارة عليه ، والحجة له ، { فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم } ولم يذكر كفارة ، وقيل : معنى ذلك غفور لمآثم اليمين ، رحيم في ترخيص المخرج منها بالتكفير ، قاله ابن زياد ، وهو راجع للقول الثاني ، وقيل : معنى رحيم حيث نظر للمرأة أن لا يضربها زوجها ، فيكون وصف الغفران بالنسبة إلى الزوج ، وصفة الرحمة بالنسبة إلى الزوجة .

/خ230