قوله تعالى : { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء } يعني : البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام ، فلولا أن الله رضيها لنا ، لغير ذلك ، وهدانا إلى غيرها ، { كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } أي : ليس إليهم الهداية إنما إليهم التبليغ .
يخبر تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه من الشرك واعتذارهم محتجين بالقدر ، في قولهم : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } أي : من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك ، مما كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء{[16425]} أنفسهم ، ما لم ينزل الله به سلطانا .
ومضمون كلامهم : أنه لو كان تعالى كارهًا لما فعلنا ، لأنكره علينا بالعقوبة ولما مكنا{[16426]} منه . قال الله رادًا عليهم شبهتهم : { فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } أي : ليس الأمر كما تزعمون أنه لم يعيره عليكم{[16427]} ولم{[16428]} ينكره ، بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار ، ونهاكم عنه آكد النهي ،
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نّحْنُ وَلآ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرّسُلِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ } .
يقول تعالى ذكره : وقال الذين أشركوا بالله فعبدوا الأوثان والأصنام من دون الله : ما نعبد هذه الأصنام إلا لأن الله قد رضي عبادتنا هؤلاء ، ولا نحرم ما حرمنا من البحائر والسوائب إلا أن الله شاء منا ومن آبائنا تحريمناها ورضيه ، لولا ذلك لقد غير ذلك ببعض عقوباته أو بهدايته إيانا إلى غيره من الأفعال . يقول تعالى ذكره : كذلك فعل الذين من قبلهم من الأمم المشركة الذين استنّ هؤلاء سنتهم ، فقالوا مثل قولهم ، وسلكوا سبيلهم في تكذيب رسل الله واتباع أفعال آبائهم الضلال . وقوله : فَهَلْ على الرّسُلِ إلاّ البَلاغُ المُبِينُ يقول جلّ ثناؤه : فهل أيها القائلون لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا على رسلنا الذين نرسلهم بانذاركم عقوبتنا على كفركم ، إلا البلاغ المبين يقول : إلا أن تبلغكم ما أرسلنا إليكم من الرسالة . ويعني بقوله المُبِينُ : الذي يبين عن معناه لمن أبلغه ، ويفهمه من أرسل إليه .
{ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرّمنا من دونه من شيء } إنما قالوا ذلك استهزاء أو منعا للبعثة والتكليف متمسكين بأن ما شاء الله يجب وما لم يشأ يمتنع فما الفائدة فيها ، أو إنكارا لقبح ما أنكر عليهم من الشرك وتحريم البحائر ونحوها محتجين بأنها لو كانت مستقبحة لما شاء الله صدورها عنهم ولشاء خلافه ، ملجئا إليه لا اعتذارا إذ لم يعتقدوا قبح أعمالهم ، وفيما بعده تنبيه على الجواب عن الشبهتين . { كذلك فعل الذين من قبلهم } فأشركوا بالله وحرموا حله وردوا رسله . { فهل على الرّسل إلا البلاغ المبين } إلا الإبلاغ الموضح للحق وهو لا يؤثر في هدى من شاء الله هداه لكنه يؤدي إليه على سبيل التوسط ، وما شاء الله وقوعه إنما يجب وقوعه لا مطلقا بل بأسباب قدرها له .
عطف قصّة على قصّة لحكاية حال من أحوال شبهاتهم ومكابرتهم وباب من أبواب تكذيبهم .
وذلك أنّهم كانوا يحاولون إفحام الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يقول : إن الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون ، وإنه القادر عليهم وعلى آلهتهم ، وإنه لا يرضى بأن يعبد ما سواه ، وإنه ينهاهم عن البحيرة والسائبة ونحوهما ، فحسبوا أنهم خصموا النبي صلى الله عليه وسلم وحاجّوه فقالوا له : لو شاء الله أن لا نعبد أصناماً لما أقدرنا على عبادتها ، ولو شاء أن لا نحرّم ما حرّمنا من نحو البحيرة والسائبة لما أقرّنا على تحريم ذلك . وذلك قصد إفحام وتكذيب .
وهذا ردّه الله عليهم بتنظير أعمالهم بأعمال الأمم الذين أهلكهم الله فلو كان الله يرضى بما عملوه لما عاقبهم بالاستئصال ، فكانت عاقبتهم نزول العذاب بقوله تعالى : { كذلك فعل الذين من قبلهم } ، ثم بقطع المحاجّة بقوله تعالى : { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } ، أي وليس من شأن الرسل عليهم السلام المناظرة مع الأمّة .
وقال في سورة الأنعام ( 148 ) { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شيء كذلك كذّب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا } فسمّى قولهم هذا تكذيباً كتكذيب الذين من قبلهم لأن المقصود منه التكذيب وتعضيد تكذيبهم بحجّة أساءوا الفهم فيها ، فهم يحسبون أن الله يتولّى تحريك الناس لأعمالهم كما يُحرّك صاحب خيال الظلّ ومحرّك اللعب أشباحَه وتماثيله ، وذلك جهل منهم بالفرق بين تكوين المخلوقات وبين ما يكسبونه بأنفسهم ، وبالفرق بين أمر التكذيب وأمر التكليف ، وتخليط بين الرضى والإرادة ، ولولا هذا التخليط لكان قولهم إيماناً .
والإشارة ب{ كذلك } إلى الإشراك وتحريم أشياء من تلقاء أنفسهم ، أي كفعل هؤلاء فَعَل الذين مِن قبلهم وهم المذكورون فيما تقدم بقوله تعالى : { قد مكر الذين من قبلهم } [ سورة النحل : 26 ] وبقوله : { كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله } [ سورة النحل : 33 ] . والمقصود : أنهم فعلوا كفعلهم فكانت عاقبتهم ما علمتم ، فلو كان فعلهم مرضياً لله لما أهلكهم ، فهلا استدلّوا بهلاكهم على أن الله غير راض بفعلهم ، فإن دلالة الانتقام أظهر من دلالة الإملاء ، لأن دلالة الانتقام وجودية ودلالة الإمهال عدمية .
وضمير { نحن } تأكيد للضمير المتّصل في { عبدنا } . وحصل به تصحيح العطف على ضمير الرفع المتّصل . وإعادة حرف النفي في قوله تعالى : { ولا آباؤنا } لتأكيد { ما } النافية .
وقد فُرع على ذلك قطع المحاجّة معهم وإعلامهم أن الرسل عليهم السلام ما عليهم إلا البلاغ ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم فاحذروا أن تكون عاقبتكم عاقبة أقوام الرّسل السالفين . وليس الرسل بمكلّفين بإكراه الناس على الإيمان حتى تسلكوا معهم التحكّك بهم والإغاظة لهم .
والبلاغ اسم مصدر الإبلاغ . والمبين : الموضّح الصريح .
والاستفهام ب ( هل ) إنكاري بمعنى النفي ، ولذلك جاء الاستثناء عقبه .
والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر إضافي لقلب اعتقاد المشركين من معاملتهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ للرسول غرضاً شخصياً فيما يدعو إليه .
وأثبت الحكم لعموم الرسل عليهم السلام وإن كان المردود عليهم لم يخطر ببالهم أمر الرسل الأولين لتكون الجملة تذييلاً للمحاجّة ، فتفيد ما هو أعمّ من المردود .
والكلام موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم تعليماً وتسلية ، ويتضمّن تعريضاً بإبلاغ المشركين .