التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖ نَّحۡنُ وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ فَهَلۡ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ} (35)

ثم حكى - سبحانه - بعض أقاويلهم الباطلة ، ومعاذيرهم الفاسدة ، ورد عليهم بما يدحضها ويدمغها ، فقال - تعالى - : { وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ ولا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كذلك فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين }

إن هذه الآيات الكريمة ، تعالج شبهة من الشبهات القديمة الحديثة .

قديمة ، لأن كثيرا من مجادلى الرسل - عليهم الصلاة والسلام - جادلوا بها .

وحديثة ، لأنها كثيرا ما تراود الذين يتمسكون بالأوهام ، إرضاء لنزواتهم وشهواتهم .

إنهم جميعا يقولون عند ارتكابهم للقبائح والمنكرات : هذا أمر الله وهذا قضاؤه ، وتلك مشيئته وإرادته ، ولو شاء الله عدم فعلنا لهذه الأشياء لما فعلناها ومادام الله - تعالى - قد قضى علينا بها فما ذنبنا ؟ ولماذا يعاقبنا عليها مادام قد شاءها لنا ؟

استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى هذه الشبهة بأسلوبه الخاص فيقول : { وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ ولا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ . . . } .

أى : وقال الذين أشركوا ، مع الله - تعالى - آلهة أخرى فى العبادة ، لنبيهم صلى الله عليه وسلم : لو شاء الله - تعالى - لنا عبادته وحده لعبدناه نحن وآباؤنا الذين هم قدوتنا .

ولو شاء لنا ولآبائنا - أيضاً - ألا نحرم شيئا مما حرمناه من البحائر والسوائب وغيرهما ، لتمت مشيئته ، ولما حرمنا شيئا لم يأذن به - سبحانه - .

ولكنه - عز وجل - لم يشأ ذلك ، بل شاء لنا أن نشرك معه فى العبادة هذه الأصنام ، وأن نحرم بعض الأنعام ، وقد رضى لنا ذلك ، فلماذا تطالبنا يا محمد صلى الله عليه وسلم بتغيير مشيئة الله ، وتدعونا إلى الدخول فى دين الإِسلام والذى لم يشأ لنا الله - تعالى - الدخول فيه ؟

هذه حجتهم ، ولاشك أنها حجة داحضة ، لأنهم يحيلون شركهم وفسوقهم على مشيئة الله - تعالى - مع أن مشيئته - تعالى - لم يطلع عليها أحد من خلقه حتى يقولوا ما قالوا .

وإنما الذى أطلعنا عليه - سبحانه - أنه أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم لهدايتنا ، ومنحنا العقول التى نميز بها بين الحق والباطل ، فمن أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم سعد وفاز ، ومن أعرض عن هدايته خسر وخاب ، قال - تعالى - : { إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } وقال - سبحانه : { وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ . . } ولقد حكى - سبحانه - شبهة المشركين هذه فى آيات أخرى ورد عليها ، ومن ذلك قوله - تعالى - { وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } وقوله - سبحانه - : { سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِم حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ . . }

هذا ، وقد قلنا عند تفسيرنا لهذه الآيات ما ملخصه : ونريد أن نزيد هذه الشبهة القديمة الحديثة تمحيصا وكشفا ودفعا ، فنقول لأولئك الذين يبررون ارتكابهم للموبقات بأنها واقعة بمشيئة الله .

نقول لهم : " نحن معكم فى أنه لا يقع فى ملكه - سبحانه - إلا ما يشاؤه . فالطائع تحت المشيئة ، والعاصى تحت المشيئة ، ولكن هذه المشيئة لم تجبر أحدا على طاعة أو معصية ، وقضاء الله هو علمه بكل ما هو كائن قبل أن يكون وليس العلم صفة تأثير وجبر .

ولقد شاء - سبحانه - أن يجعل فى طبيعة البشر الاستعداد للخير والشر ، ووهبهم العقل ليهتدوا به ، وأرسل إليهم الرسل لينموا فيهم استعدادهم ، وسن لهم شريعة لتكون مقياسا ثابتا لما يأخذون وما يدعون ، كى لا يتركهم لعقولهم وحدها .

وإذاً فمشيئة الله متحققة حسب سنته التى ارتضاها ، سواء اتخذ العبد طريقه إلى الهدى أم إلى الضلال ، وهو مؤاخذ إن ضل ، ومأجور إذا اهتدى ، غير أن سنة الله اقتضت أن من يفتح عينيه يبصر النور ، ومن يغمضهما لا يراه .

كذلك من يفتح قلبه لإِدراك دلائل الإِيمان يهتدى ، ومن يحجب قلبه عنها يضل . سنة الله ولن تجد لسنته تبديلا .

وإذًا فزعم الزاعمين بأن الله شاء هذا ، على معنى أنه أجبرهم عليه ، فهم لا يستطيعون عنه فكاكا ، إنما هو زعم باطل لاسند له من العلم والتفكير الصحيح . . " .

وقوله - سبحانه - : { كذلك فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما قاله هؤلاء المشركون من كذب ، وما نطقوا به من باطل .

واسم الإِشارة { كذلك } يعود إلى إشراكهم وتحريمهم لما أحله الله - تعالى - أى : مثل ذلك الفعل الشنيع الذى فعله قومك معك يا محمد ، فعل أشباههم السابقون مع أنبيائهم الذين أرسلهم الله - تعالى - لهدايتهم ، فلا تبتئس - أيها الرسول الكريم - مما فعله معك مشركو قومك . فإننا لولا وجودك فيهم ، لأنزلنا بهم ما أنزلنا على سابقيهم من عذاب .

والاستفهام فى قوله - تعالى - : { فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين } . إنكارى فى معنى النفى . والبلاغ : اسم مصدر بمعنى الإِبلاغ . والمبين : الواضح الصريح .

أى : ما على الرسل الكرام الذين أرسلهم الله - تعالى - لإِرشاد أقوامهم إلى الصراط المستقيم إلا الإبلاغ الواضح ، المظهر لأحكام الله ، المميز بين الحق والباطل ، أما إجبار الناس على الدخول فى الحق فليس من وظيفتهم .

قال - تعالى - : { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } وقال - تعالى - : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ . . }