الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖ نَّحۡنُ وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ فَهَلۡ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ} (35)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وقال الذين أشركوا} مع الله غيره، يعني: كفار مكة: {لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء} من الآلهة، {نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء}، من الحرث والأنعام، ولكن الله أمرنا بتحريم ذلك، يقول الله عز وجل: {كذلك}، يعني: هكذا {فعل الذين من قبلهم} من الأمم الخالية برسلهم، كما كذبت كفار مكة، وتحريم ما أحل الله من الحرث والأنعام، فلما كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: {فهل على الرسل إلا البلاغ المبين}، يقول: ما على الرسول إلا أن يبلغ ويبين لكم...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وقال الذين أشركوا بالله فعبدوا الأوثان والأصنام من دون الله: ما نعبد هذه الأصنام إلا لأن الله قد رضي عبادتنا هؤلاء، ولا نحرم ما حرمنا من البحائر والسوائب إلا أن الله شاء منا ومن آبائنا تحريمناها ورضيه، لولا ذلك لقد غير ذلك ببعض عقوباته أو بهدايته إيانا إلى غيره من الأفعال. يقول تعالى ذكره: كذلك فعل الذين من قبلهم من الأمم المشركة الذين استنّ هؤلاء سنتهم، فقالوا مثل قولهم، وسلكوا سبيلهم في تكذيب رسل الله واتباع أفعال آبائهم الضلال.

"فَهَلْ على الرّسُلِ إلاّ البَلاغُ المُبِينُ" يقول جلّ ثناؤه: فهل أيها القائلون لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا على رسلنا الذين نرسلهم بإنذاركم عقوبتنا على كفركم، إلا البلاغ المبين يقول: إلا أن تبلغكم ما أرسلنا إليكم من الرسالة. ويعني بقوله: "المُبِينُ": الذي يبين عن معناه لمن أبلغه، ويفهمه من أرسل إليه.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

خَبثَتْ قصودُهم فيما قالوا على وجه التكذيب والاستهزاء، وغَلَبَتْ على نطقهم ظلمات جهلهم وجحدهم، وانكشف عدمُ صِدْقِهم في أحوالهم. وقولهم: {لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدَنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ...} يشبه قولهم: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47]. ولا خلاف أن الله لو شاء أن يطعمهم لكان ذلك.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

هذا من جملة ما عدّد من أصناف كفرهم وعنادهم، من شركهم بالله وإنكار وحدانيته بعد قيام الحجج وإنكار البعث واستعجاله، استهزاء منهم به وتكذيبهم الرسول، وشقاقهم، واستكبارهم عن قبول الحق، يعني: أنهم أشركوا بالله وحرّموا ما أحل الله، من البحيرة والسائبة وغيرهما، ثم نسبوا فعلهم إلى الله وقالوا: لو شاء لم نفعل... {كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي أشركوا وحرموا حلال الله فلما نبهوا على قبح فعلهم ورّكوه على ربهم.

{فَهَلْ عَلَى الرسل} إلا أن يبلغوا الحق... ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه وبراءة الله تعالى من أفعال العباد، وأنهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم، والله تعالى باعثهم على جميلها وموفقهم له، وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{وقال الذين أشركوا...}، جدل من الكفار، وذلك أن أكثر الكفار يعتقدون وجود الله تعالى وأنه خالقهم ورازقهم، فإن كان أهل هذه الآية من هذا الصنف فكأنهم قالوا يا محمد: نحن من الله بمرأى في عبادة الأوثان لتنفع وتقرب زلفى، ولو كره الله فعلنا لغيره منذ مدة، إما بإهلاكنا وإما بهدايتنا، وكان من الكفار فريق لا يعتقد وجود الله تعالى، فإن كان أهل هذه الآية من هذا الصنف فكأنهم أخذوا الحجة على النبي صلى الله عليه وسلم من قوله، أي إن الرب الذي تثبته يا محمد وهو على ما تصفه يعلم ويقدر لا شك أنه يعلم حالنا، ولو كرهها لغيرها، والرد على هذين الفريقين هو في أن الله تعالى ينهى عن الكفر وقد أراده بقوم، وإنما نصب الأدلة وبعث الرسل ويسر كلًّ لما حتم عليه، وهذا الجدال من أي الصنفين فرضته ليس فيه استهزاء، لكن أبا إسحاق الزجاج: قال إن هذا الكلام على جهة الهزء، فذهب أبو إسحاق رحمه الله والله أعلم إلى أن الطائفة التي لا تقول بإله ثم أقامت الحجة من مذهب خصمها كأنها مستهزئة في ذلك، وهذا جدل محض، والرد عليه كما ذكرناه...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{لو شاء الله} أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء قدرة وعلماً، عدم عبادتنا لغيره {ما عبدنا}. ولما كانت الرتب كلها متقاصرة عن رتبته وكانت متفاوته، وكان ما يعبدونه من الأصنام في أدناها رتبة، أدخلوا الجار فقالوا: {من دونه} وأعرقوا في النفي فقالوا: {من شيء} أي من الأشياء {نحن ولا ءاباؤنا} من قبلنا! ولما ذكروا الأصل أتبعوه الفرع فقالوا: {ولا حرمنا} أي على أنفسنا {من دونه} أي دون أمره {من شيء} لأن ما يشاء لا يتخلف على زعمكم، لكنه لم يشأ العدم، فقد شاء وجود ما نحن عليه، فنحن نتبع ما شاءه لا نتغير عنه، لأنه لا يشاء إلا ما هو حق، وضل عن الأشقياء -بكلمتهم هذه الحق التي أرادوا بها الباطل- أن مدار السعادة والشقاوة إنما هو موافقة الأمر لا موافقة الإرادة، فما كان من الفعل والكف على وفق الأمر سعد فاعله، وما خالفه قامت به الحجة على فاعله على ما جرت به عوائد الناس فشقي.

فلما انتهك ستر هذه المقالة المموهة، وكان كأنه قيل استبعاداً لها: هل قالها غيرهم؟ فقيل: نعم! {كذلك} أي مثل هذا الفعل البعيد من السداد، والقول الخارج عن الهداية والرشاد، وهو الاعتراض على ربهم في إرسال الرسل، مانعين لجواز الإرسال بهذه الشبهة الضعيفة، فإنه تعالى يريد إظهار ثمرة الملك بالحكم على ما يتعارفه العباد من إقامة الحجة بالأفعال الاختيارية وإن كانت بقضائه، لأن ذلك مستور عن العباد {فعل} أي كذب بدليل الأنعام {الذين} ودل على عدم الاستغراق للزمان بقوله: {من قبلهم} وكان تكذيباً، لأن قولهم اقتضى أن يكون ما هم عليه مما يرضاه الله، والرسل يقولون: لا يرضاه، ولا يرضى إلا ما أخبروا بأن صاحبه مثاب عليه أو غير معاقب، فكان ذلك سبباً للإنكار عليهم بقوله: {فهل} أي فما {على الرسل} أي الذين لا رسل في الحقيقة غيرهم، وهم الذين أرسلهم الله لدعاء العباد خلفاً عن سلف؛ ولما كان الاستفهام بمعنى النفي -كما تقدم- إلا أنه صور بصورته ليكون كدعوى الشيء بدليلها فقال: {إلا البلاغ المبين} وقد بلغوكم وأوضحوا لكم، فصار وبال العصيان خاصاً بكم.

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ} أي أهلُ مكة، وهو بيانٌ لفن آخرَ من كفرهم والعدولُ عن الإضمار إلى الموصول لتقريعهم بما في حيز الصلة وذمِّهم بذلك من أول الأمر...

{فَهَلْ عَلَى الرسل}...فالفاءُ للتعليل كأنه قيل: كذلك فعل أسلافهم وذلك باطل فإن الرسلَ ليس شأنُهم إلا تبليغَ أوامرِ الله تعالى ونواهيه لا تحقيقَ مضمونِهما وإجراءَ موجبهما على الناس قسراً وإلجاءً، وإيرادُ كلمة (على) للإيذان بأنهم في ذلك مأمورون أو بأن ما يبلغونه حقٌّ للناس عليهم وإيفاؤُه. بهذا ظهر أن حملَ قولِهم: {لَوْ شَاء الله} الخ، على الاستهزاء لا يلائم الجواب والله تعالى أعلم بالصواب.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عطف قصّة على قصّة لحكاية حال من أحوال شبهاتهم ومكابرتهم وباب من أبواب تكذيبهم.

وذلك أنّهم كانوا يحاولون إفحام الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يقول: إن الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون، وإنه القادر عليهم وعلى آلهتهم، وإنه لا يرضى بأن يعبد ما سواه، وإنه ينهاهم عن البحيرة والسائبة ونحوهما، فحسبوا أنهم خصموا النبي صلى الله عليه وسلم وحاجّوه فقالوا له: لو شاء الله أن لا نعبد أصناماً لما أقدرنا على عبادتها، ولو شاء أن لا نحرّم ما حرّمنا من نحو البحيرة والسائبة لما أقرّنا على تحريم ذلك. وذلك قصد إفحام وتكذيب.

وهذا ردّه الله عليهم بتنظير أعمالهم بأعمال الأمم الذين أهلكهم الله فلو كان الله يرضى بما عملوه لما عاقبهم بالاستئصال، فكانت عاقبتهم نزول العذاب بقوله تعالى: {كذلك فعل الذين من قبلهم}، ثم بقطع المحاجّة بقوله تعالى: {فهل على الرسل إلا البلاغ المبين}، أي وليس من شأن الرسل عليهم السلام المناظرة مع الأمّة.

وقال في سورة الأنعام (148) {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شيء كذلك كذّب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا} فسمّى قولهم هذا تكذيباً كتكذيب الذين من قبلهم لأن المقصود منه التكذيب وتعضيد تكذيبهم بحجّة أساءوا الفهم فيها، فهم يحسبون أن الله يتولّى تحريك الناس لأعمالهم كما يُحرّك صاحب خيال الظلّ ومحرّك اللعب أشباحَه وتماثيله، وذلك جهل منهم بالفرق بين تكوين المخلوقات وبين ما يكسبونه بأنفسهم، وبالفرق بين أمر التكذيب وأمر التكليف، وتخليط بين الرضى والإرادة، ولولا هذا التخليط لكان قولهم إيماناً.

والإشارة ب {كذلك} إلى الإشراك وتحريم أشياء من تلقاء أنفسهم، أي كفعل هؤلاء فَعَل الذين مِن قبلهم وهم المذكورون فيما تقدم بقوله تعالى: {قد مكر الذين من قبلهم} [سورة النحل: 26] وبقوله: {كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله} [سورة النحل: 33]. والمقصود: أنهم فعلوا كفعلهم فكانت عاقبتهم ما علمتم، فلو كان فعلهم مرضياً لله لما أهلكهم، فهلا استدلّوا بهلاكهم على أن الله غير راض بفعلهم، فإن دلالة الانتقام أظهر من دلالة الإملاء، لأن دلالة الانتقام وجودية ودلالة الإمهال عدمية.

وضمير {نحن} تأكيد للضمير المتّصل في {عبدنا}. وحصل به تصحيح العطف على ضمير الرفع المتّصل. وإعادة حرف النفي في قوله تعالى: {ولا آباؤنا} لتأكيد {ما} النافية.

وقد فُرع على ذلك قطع المحاجّة معهم وإعلامهم أن الرسل عليهم السلام ما عليهم إلا البلاغ ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم فاحذروا أن تكون عاقبتكم عاقبة أقوام الرّسل السالفين. وليس الرسل بمكلّفين بإكراه الناس على الإيمان حتى تسلكوا معهم التحكّك بهم والإغاظة لهم.

والبلاغ اسم مصدر الإبلاغ. والمبين: الموضّح الصريح.

والاستفهام ب (هل) إنكاري بمعنى النفي، ولذلك جاء الاستثناء عقبه.

والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر إضافي لقلب اعتقاد المشركين من معاملتهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ للرسول غرضاً شخصياً فيما يدعو إليه.

وأثبت الحكم لعموم الرسل عليهم السلام وإن كان المردود عليهم لم يخطر ببالهم أمر الرسل الأولين لتكون الجملة تذييلاً للمحاجّة، فتفيد ما هو أعمّ من المردود.

والكلام موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم تعليماً وتسلية، ويتضمّن تعريضاً بإبلاغ المشركين.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

والآية هنا رجحنا أنها للتحدي أو الاستهزاء، وفي سورة الأنعام يرجح أنه لتعلاتهم في إثمهم وشركهم، ولذا كان الرد عليهم: {...قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون (148)} [الأنعام] بدليل قوله تعالى: {كذلك فعل الذين من قبلهم}، أي فعل ذلك الفعل الذي تفعلون فعل الذين من قبلكم، وهؤلاء لم يفعلوا بل قالوا ولم يقل: وكذلك قال الذين من قبلكم، فدل ذلك على أن ما كان منهم ليس مجرد قول بل هو فعل وهو التحدي أو الاستهزاء...

{ولا حرمنا من دونه من شيء}، أي ما حرمنا من غير الله من شيء، بل من ذات أنفسنا.

{فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} الفاء للإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر إذ تقديره إذا كنتم تتحدون وتطلبون إنزال العقاب فليس هذا لنا، إنما علينا البلاغ الواضح المبين الذي لا يترك ريبة لمرتاب، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الوقوع، أي ليس على الرسل إلا البلاغ المبين، أي التبليغ الواضح وهذه الجملة السامية لا تخلو من إنذار، ووصف البلاغ بأنه مبين يفيد أنه معلوم بإنذاره فمن اهتدى فلنفسه ومن عاند وخالف فليه إثم عناده.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

وتعالوا نناقش صاحب هذه المقولات، لأن عنده تناقضاً عقلياً، والقضية غير واضحة أمامه.. ولكي نزيل عنه هذا الغموض نقول له: ولماذا لم تقل: إذا كان الله قد أراد لي الطاعة وكتبها علي، فلماذا يثيبني عليها.. هكذا المقابل.. فلماذا قلت بالأولى ولم تقل بالثانية؟! واضح أن الأولى تجر عليك الشر والعذاب، فوقفت في عقلك.. أما الثانية فتجر عليك الخير، لذلك تغاضيت عن ذكرها. ونقول له: هل أنت حينما تعمل أعمالك.. هل كلها خير؟ أم هل كلها شر؟ أما منها ما هو خير، ومنها ما هو شر؟. والإجابة هنا واضحة. إذن: لا أنت مطبوع على الخير دائماً، ولا أنت مطبوع على الشر دائماً، لذلك فأنت صالح للخير، كما أنت صالح للشر. إذن: هناك فرق بين أن يخلقك صالحاً للفعل وضده، وبين أن يخلقك مقصوراً على الفعل لا ضده، ولما خلقك صالحاً للخير وصالحاً للشر أوضح لك منهجه وبين لك الجزاء، فقال: اعمل الخير.. والجزاء كذا، واعمل الشر.. والجزاء كذا.. وهذا هو المنهج. ويحلو للمسرف على نفسه أن يقول: إن الله كتبه علي.. وهذا عجيب، وكأني به قد اطلع على اللوح المحفوظ ونظر فيه، فوجد أن الله كتب عليه أن يشرب الخمر مثلاً فراح فشربها؛ لأن الله كتبها عليه. ولو أن الأمر هكذا لكنت طائعاً بشربك هذا، لكن الأمر خلاف ما تتصور، فأنت لا تعرف أنها كتب عليك إلا بعد أن فعلت، والفعل منك مسبوق بالعزم على أن تفعل، فهل اطلعت على اللوح المحفوظ كي تعرف ما كتبه الله عليك؟. انتبه هنا واعلم أن الله تعالى كتب أزلاً؛ لأنه علم أنك تفعل أجلاً، وعلم الله مطلق لا حدود له. ونضرب مثلاً ولله المثل الأعلى الوالد الذي يلاحظ ولده في دراسته، فيجده مهملاً غير مجد فيتوقع فشله في الامتحان.. هل دخل الوالد مع ولده وجعله يكتب خطأ؟ لا.. بل توقع له الفشل لعلمه بحال ولده، وعدم استحقاقه للنجاح.

إذن: كتب الله مسبقاً وأزلاً؛ لأنه يعلم ما يفعله العبد أصلاً.. وقد أعطانا الحق تبارك وتعالى صورة أخرى لهذا المنهج حينما وجه المؤمنين إلى الكعبة بعد أن كانت وجهتهم إلى بيت المقدس، فقال تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره.. "144 "} (سورة البقرة). ثم أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها "142 "} (سورة البقرة). جاء الفعل هكذا في المستقبل: سيقول.. إنهم لم يقولوا بعد هذا القول، وهذا قرآن يتلى على مسامع الجميع غير خافٍ على أحد من هؤلاء السفهاء، فلو كان عند هؤلاء عقل لسكتوا ولم يبادروا بهذه المقولة، ويفوتوا الفرصة بذلك على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى صدق القرآن الكريم.

فهنا (سيقول) وفي الآية الأخرى (قال) لنعلم أنه لا يستطيع أحد معارضة قول الله تعالى، أو تغيير حكمه. ثم يقول تعالى: {نحن ولا آباؤنا} لماذا لم يتحدث هؤلاء عن أنفسهم فقط؟ ما الحكمة في دفاعهم عن آبائهم هنا؟ الحكمة أنهم سيحتاجون لهذه القضية فيما بعد وسوف يجعلونها حجة حينما يقولون: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون "22 "} (سورة الزخرف).

{فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} بلاغ المنهج ب:افعل ولا تفعل؛ لذلك استنكر القرآن الكريم على هؤلاء الذين جاءوا بقول من عند أنفسهم دون رصيد من المبلغ صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى في حق هؤلاء: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون" 19 "وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم" 20 "} (سورة الزخرف).

فأنكر عليهم سبحانه ذلك، وسألهم: {أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون "21 "} (سورة الزخرف). وخاطبهم سبحانه في آية أخرى: {أم لكم كتاب فيه تدرسون" 37 "} (سورة القلم) وكلمة (البلاغ المبين) أي: لابد أن يبلغ المكلف، فإن حصل تقصير في ألا يبلغ المكلف ينسب التقصير إلى أهل الدين الحق، المنتسبين إليه، والمناط بهم تبليغ هذا المنهج لمن لم يصله. وقد وردت الأحاديث الكثيرة في الحث على تبليغ دين الله لمن لم يصله الدين. كما قال صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية" وقوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع".

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} لأن الله لم يجعل للرسول مهمّة التدخل في تحويل قناعات الناس إلى الإيمان بطريقةٍ غيبيّةٍ، كما يوحي ربطهم بين الإيمان وبين المشيئة الإلهية لذلك بطريقةٍ ضاغطةٍ لا مجال فيها للاختيار، بل إن الله قد جعل مهمة الرسول البلاغ، في كل ما يريد الله أن يبلّغه للناس من وحيه وتعاليمه، ليختاروا ما يريدون من ذلك من موقع حرية الإرادة، لأن المشيئة لا تعني إلغاء الإرادة، بل تعني تأكيدها عندما يشاء الله لهم الكفر أو الإيمان باختيارهم، بما وفره لهم من وسائل الاختيار.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

ولهذا يقول تعالى مباشرة: (كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إِلاّ البلاغ المبين)... يعني. أوّلاً: أنْ تقولوا أنَّ اللّه سكت عن أعمالنا! فإِنّ اللّه قد بعث إِليكم الأنبياء، ودعوكم إلى التوحيد ونفي الشرك. ثانياً: إنّ وظيفة اللّه تعالى والنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليسَ هي هدايتكم بالجبر، بل بإِراءتكم السبيل الحق والطريق المستقيم، وهذا ما حصل فعلا.