معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّا سَخَّرۡنَا ٱلۡجِبَالَ مَعَهُۥ يُسَبِّحۡنَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِشۡرَاقِ} (18)

قوله تعالى : { إنا سخرنا الجبال معه } كما قال : { وسخرنا مع داود الجبال } { يسبحن } بتسبيحه ، { بالعشي والإشراق } قال الكلبي : غدوة وعشية . والإشراق : هو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوءها . وفسره ابن عباس : بصلاة الضحى .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا ابن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن حيوة ، حدثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم ، حدثنا الحجاج بن نضير ، أنبأنا أبو بكر الهذلي ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس في قوله : بالعشي والإشراق ، قال : كنت أمر بهذه الآية لا أدري ما هي حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ، ثم صلى الضحى ، فقال : يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق " .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{إِنَّا سَخَّرۡنَا ٱلۡجِبَالَ مَعَهُۥ يُسَبِّحۡنَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِشۡرَاقِ} (18)

فيه أربع مسائل :

الأولى- قوله تعالى : ( إنا سخرنا الجبال معه يسبحن ) : ( يسبحن ) في موضع نصب على الحال . ذكر تعالى ما آتاه من البرهان والمعجزة وهو تسبيح الجبال معه . قال مقاتل : كان داود إذا ذكر الله جل وعز ذكرت الجبال معه ، وكان يفقه تسبيح الجبال . وقال ابن عباس : " يسبحن " يصلين . وإنما يكون هذا معجزة إذا رآه الناس وعرفوه . وقال محمد بن إسحاق : أوتي داود من حسن الصوت ما يكون له في الجبال دوي حسن ، وما تصغي لحسنه الطير وتصوت معه ، فهذا تسبيح الجبال والطير . وقيل : سخرها الله عز وجل لتسير معه فذلك تسبيحها ؛ لأنها دالة على تنزيه الله عن شبه المخلوقين . وقد مضى القول في هذا في " سبأ " وفي " سبحان " عند قوله تعالى : " وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " [ الإسراء : 44 ] وأن ذلك تسبيح مقال على الصحيح من الأقوال . والله أعلم . " بالعشي والإشراق " الإشراق أيضا ابيضاض الشمس بعد طلوعها . يقال : شرقت الشمس إذا طلعت ، وأشرقت إذا أضاءت . فكان داود يسبح إثر صلاته عند طلوع الشمس وعند غروبها .

الثانية- روي عن ابن عباس أنه قال : كنت أمر بهذه الآية : " بالعشي والإشراق " ولا أدري ما هي ، حتى حدثتني أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها ، فدعا بوضوء فتوضأ ، ثم صلى صلاة الضحى ، وقال : ( يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق ) . وقال عكرمة قال ابن عباس : كان في نفسي شيء من صلاة الضحى حتى وجدتها في القرآن " يسبحن بالعشي والإشراق " . قال عكرمة : وكان ابن عباس لا يصلي صلاة الضحى ثم صلاها بعد . وروي أن كعب الأحبار قال لابن عباس : إني أجد في كتب الله صلاة بعد طلوع الشمس هي صلاة الأوابين . فقال ابن عباس : وأنا أوجدك في القرآن ، ذلك في قصة داود : " يسبحن بالعشي والإشراق " .

الثالثة- صلاة الضحى نافلة مستحبة ، وهي في الغداة بإزاء العصر في العشي ، لا ينبغي أن تصلى حتى تبيض الشمس طالعة ، ويرتفع كدرها ، وتشرق بنورها ، كما لا تصلى العصر إذا اصفرت الشمس . وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( صلاة الأوابين حين ترمض الفصال ) الفصال والفصلان جمع فصيل ، وهو الذي يفطم من الرضاعة من الإبل . والرمضاء شدة الحر في الأرض . وخص الفصال هنا بالذكر ؛ لأنها هي التي ترمض قبل انتهاء شدة الحر التي ترمض بها أمهاتها لقلة جلدها ، وذلك يكون في الضحى أو بعده بقليل وهو الوقت المتوسط بين طلوع الشمس وزوالها . قاله القاضي أبو بكر بن العربي . ومن الناس من يبادر بها قبل ذلك استعجالا ، لأجل شغله فيخسر عمله ؛ لأنه يصليها في الوقت المنهي عنه ويأتي بعمل هو عليه لا له .

الرابعة- روى الترمذي من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا من ذهب في الجنة ) قال حديث غريب . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى ) . وفي الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من حافظ على شفعة الضحى غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر ) . وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : ( أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت صوم ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى ونوم على وتر ) لفظ البخاري . وقال مسلم : ( وركعتي الضحى ) وخرجه من حديث أبي الدرداء كما خرجه البخاري من حديث أبي هريرة . وهذا كله يدل على أن أقل الضحى ركعتان وأكثره ثنتا عشرة . والله أعلم . وأصل السلامى ( بضم السين ) عظام الأصابع والأكف والأرجل ، ثم استعمل في سائر عظام الجسد ومفاصله . وروي من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله وعزل حجرا عن طريق الناس ، أو شوكة أو عظما عن طريق الناس وأمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة سلامى فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار ) قال أبو توبة : وربما قال : ( يمسي ) كذا خرجه مسلم . وقوله : ( ويجزي من ذلك ركعتان ) أي يكفي من هذه الصدقات عن هذه الأعضاء ركعتان . وذلك أن الصلاة عمل بجميع أعضاء الجسد ، فإذا صلى فقد قام كل عضو بوظيفته التي عليه في الأصل . والله أعلم .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{إِنَّا سَخَّرۡنَا ٱلۡجِبَالَ مَعَهُۥ يُسَبِّحۡنَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِشۡرَاقِ} (18)

ولما كان الإنسان لا يزال يتقرب إلى الله تعالى حتى يحبه فإذا أحبه صار يفعل به سبحانه ، وظهرت على يديه الخوارق ، قال مستأنفاً جواباً لمن سأل عن جزائه على ذلك الجهاد ، مؤكداً له لما طبع عليه البشر من إنكار الخوارق لتقيده بالمألوفات : { إنا } أي على ما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء { سخرنا الجبال } أي التي هي أقسى من قلوب قومك فإنها أعظم الأراضي صلابة وقوة وعلواً ورفعة ، بأن جعلناها منقادة ذلولاً كالجمل الأنف ، ثم قيد ذلك بقوله : { معه } أي مصاحبة له فلم يوجد ذلك التسخير ظاهراً لأحد بعده ولا قبله ، ولما كان وجود التسبيح من الجبال شيئاً فشيئاً أعجب لأنها جماد ، عبر بالفعل المضارع ، فقال مصوراً لتلك الحال معبراً بضمير الإناث إشارة إلى أنها بعد ما لها من الصلابة صارت في غاية اللين والرخاوة ، يسبح كل جبل منها بصوت غير مشبه بصوت الآخر ، لأن ذلك أقرب إلى التمييز والعلم بتسبيح كل على انفراده : { يسبحن } ولم يقل : " مسبحة " أو " تسبح " لئلا يظن أن تسبيحها بصوت واحد ليشكل الأمر في بعضها ، وهو يمكن أن يكون استئنافاً وأن يكون حالاً بمعنى أنهن ينقدن له بالتسبيح قالاً وحالاً انقياد المختار المطيع لله .

ولما كان في سياق الأوبة ، وكان آخر النهار وقت الرجوع لكل ذي إلف إلى مألفه مع أنه وقت الفتور والاستراحة من المتاعب قال : { بالعشي } أي تقوية للعامل وتذكيراً للغافل . ولما كان في سياق الفيض والتشريف بالقرآن قال : { والإشراق * } أي في وقت ارتفاع الشمس عن انتشاب الناس في الأشغال ، واشتغالهم بالمآكل والملاذ من الأقوال والأفعال ، تذكيراً لهم وترجيعاً عن مألوفاتهم إلى تقديس ربهم سبحانه ، وليس الإشراق طلوع الشمس ، إنما هو صفاؤها وضوؤها ، وشروقها طلوعها ، وروت أم هانىء رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في بيتها الضحى وقال لها : " هذه صلاة الإشراق " وفي الجامع لعبد الرزاق أن ابن عباس رضي الله عنهما قال : صلاة الضحى في القرآن ، ولكن لا يغوص عليها إلا غائص ، ثم قرأ هذه الآية . وإليها الإشارة أيضاً - والله أعلم - بصلاة الأوابين { واذكر عبدنا داود ذا الأيد أنه أواب } { ووهبنا لداود سليمان نعم العبد أنه أواب } { يا جبال أوبي معه } { والطير محشورة كل له أواب } روى مسلم في صحيحه وعبد بن حميد في مسنده والدارمي في جامعه المسمى بالمسند عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " صلاة الأوابين حين ترمض الفصال " ، ولفظ الدارمي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهو يصلون بعد طلوع الشمس فقال : " صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال " ، ولفظ عبد أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فرآهم يصلون الضحى فقال : " هذه صلاة الأوابين وكانوا يصلونها إذا رمضت الفصال " أي بركت من شدة الحر وإحراقه أخفافها ، من الرمض - بالتحريك ، وهو شدة الشمس على الرمل وغيره ، والرمضاء : الشديدة الحر .