تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِنَّا سَخَّرۡنَا ٱلۡجِبَالَ مَعَهُۥ يُسَبِّحۡنَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِشۡرَاقِ} (18)

قوله تعالى : { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق } وهو على التقديم والتأخير ؛ كأنه قال عز وجل إنا سخرنا الجبال يسبحن ، أخبر أنه سخر الجبال والطير وما ذكر لداوود كي يطعنه ، ويسبحن معه .

وفيه لطف من الله عز وجل في هذه الأشياء ، والخصوصية لداوود في ذلك حين صير الجبال والطير بحيث يقفن وقت تسبيح داوود معه على ما أخبر عز وجل .

وفيه لطف من الله عز وجل حيث صير الجبال مع شدتها وصلابتها بحيث تعرف وقت تسبيح داوود ، وتعرف تسبيحه ، وتسبح ، وتلين له .

فجائز أن يجعل قلب الكافر بحيث يلين ، ويخضع لله بلطفه ، إذ قلبه ليس أشد قسوة وصلابة من الجبال . فإذا جعل لطفه فيها لانت وخضعت . فعلى ذلك إذا جعل ذلك اللطف في قلب الكافر لا يحتمل ألا يلين ، ولا يخضع ، إذ هو ليس أصلب وأشد من الجبال التي ذكرنا ، والله أعلم .

وأما الخصوصية له فإن الله عز وجل جعل لكل من الرسل خصوصية في شيء ، لم يجعل مثل تلك الخصوصية لآخر في ذلك الشيء بعينه بلطفه .

وخصوصي داوود ما ذكر من تسخير ما ذكر له من الجبال والطير والتسبيح معه وما ذكر من إلانة الحديد له وغير ذلك من الأشياء .

وخصوصية سليمان ما ذكر من تسخير الرياح له وحملها إياه حيث شاء إلى ما شاء مسيرة شهر بغدوة ومسيرة شهر بعشية حيث قال عز وجل : { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } [ سبأ : 12 ] وما ذكر من فهم نطق الطير والنطق معه ، وفهمه تسبيحها ، ونحو ذلك كثير .

و مثل هذا ما قد جعل لرسول الله صلى الله عليه و سلم حين أنه أخذ أحجارا ، فسبحن في يده حتى سمع ذلك من حضره ، و ما ذكر أن أصابعه يسبحن ، و نحوه كثير .

فلكل منهم خصوصية في شيء ، ليست تلك لغيره ، والله أعلم .