اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّا سَخَّرۡنَا ٱلۡجِبَالَ مَعَهُۥ يُسَبِّحۡنَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِشۡرَاقِ} (18)

قوله : { إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ } فقوله : «يسبحن » جملة حالية من «الجبال » وأتى بها هنا فعلاً مضارعاً دون اسم الفاعل فلم يقل مسبِّحات ، دلالة على التجدد والحدوث شيئاً بعد شيء كقول الأعشى :

لَعَمْرِي لَقَدْ لاَحَتْ عُيُونٌ كَثِيرَةٌ*** إلَى ضَوْءٍ نَارٍ فِي بِقَاعِ تَحَرَّقُ

أي تحرق شيئاً فشيئاً ، ولو قال : مُحْرِقة لم يدل على هذا المعنى .

فصل :

المعنى : يسبحن بتسبيحه . و في كيفية تسبيح الجبال وجوه :

الأول : أن الله تعالى يخلق في جسم الجبل حياة وعقلاٌ وقُدرة ونُطقاً ، فحينئذ يصير الجبل مسبحاً لله تعالى .

الثاني : قال القفال : إن داود - عليه الصلاة والسلام- أوتي من شدة الصوت وحسنه ما كان له في الجبال دويٌّ حسن وما يصغي الطير إليه لحسنه فيكون دويّ الجبال وتصويت الطير معه وإصغاؤها إليه تسبيحاً ، وروى محمد بن إسحاق أن الله تعالى لم يعط أحداً من خلقه مثل صوت داود حتى إنه كان إذا قرأ الزبور دنَتْ منه الوحوش حتى تؤخَذَ بأعْنَاقِهَا .

الثالث : أن الله تعالى سخر الجبال حتى إنّها كانت تسير إلى حيث يريده داود فجعل ذلك السير تسبيحاً لأنه يدل على كمال قدرة الله وحكمته .

قوله : { بالعشي والإشراق } قال الكلبي غَدْوةً وعَشِيًّا والإشراق هو أن تشرق الشمسُ ويتناهى ضوؤها قال الزجاج : يقال شَرقَت الشمس إذا طلعت ، وأشرقت إذا أضاءت ، وقيل : هما بمعنًى . والأول أكثر . تقول العرب شرقت الشمس والماء يُشرق ، وفسره ابن عباس بصلاة الضحى . «قال ابن عباس كنت أمر بهذه الآية لا أدري ما هي حتى حدثَتْنِي أمّ هانِئ بنت أبي طالب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها فدعا بوَضُوء فتوضأ ثمّ صلّى الضحى وقال يا أم هانئ : هذه صلاة الإشراق » . وروى طاوس عن ابن عباس قال : هل تجدون ذكرَ صلاةِ الضحى في القرآن ؟ قالوا : لا ؛ فقرأ : «إنا سَخَّرْنَا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق » قال : وكانت صلاة يصليها داود عليه السلام وقال لم يزل في نفسي شيء من صلاة الضحى حتى طلبتها فوجدتها في قوله تعالى : { يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق } .